The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

أمريكا اللاتينية والخروج من الحداثة الغربية بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

Share

عالجنا في الأسبوع الماضي موضوع الهوية والأمة في الفكر اللاتيني الأمريكي، وأشرنا إلى بروز نزعة ما بعد كولونيالية قوية في هذا الفكر، أصبح لها اليوم حضور قوي في الساحة الثقافية والأكاديمية.


من المعروف أن هذه النزعة انتظمت حول مجموعة “الحداثة/الكولونيالية” التي هي تيار فكري وبحثي تشكل في نهاية التسعينيات في بلدان أمريكا اللاتينية، ومن أبرز رموزه “إنريك دوسل” في الأرجنتين، و”أنيبال كويخانو” في البيرو، و”أرتيرو إسكوبار” في كولومبيا و”والتر ميغنولو” في الأرجنتين. الأطروحة التي تجمع هؤلاء المفكرين هي الربط الوثيق بين الحداثة الأوروبية والاستعمار، باعتبار أن التفوق التكنولوجي والاقتصادي الغربي لم ينجم عن مزايا ذاتية، بل لا يمكن تفسيره إلا بسياسات الهيمنة، والاستغلال والسيطرة التي مورست ضد شعوب العالم الثالث. ولهذه السياسات خلفيات عرقية ونمط من المرجعية المعرفية التي فرضت شبكة تأويلية عالمية، كما أنها تتأسس على احتكار القيم الإنسانية الكونية والنظرة القدحية التمييزية ضد الشعوب والثقافات الأخرى.


سنكتفي هنا بتوجيه النظر إلى أهم مفكرين يمثلان هذه النزعة وهما الفيلسوف “إنريك دوسل” الذي توفي في نهاية 2023 بالمكسيك، والكاتب الأديب “والتر ميغنولو”.

 

لقد تأثر “دوسل” بأعمال الفيلسوفين “إيمانويل لفيناس” و”بول ريكور” في تركيزهما على أخلاقية المغايرة والعيش المشترك. لكن ما يميز فكر “دوسل” هو تحويل الاهتمام من الآخر الفرد، موضوع الفلسفة الأخلاقية لـ”لفيناس” و”ريكور”، إلى الثقافات والحضارات الأخرى من منظور نقدي للحداثة الغربية بصفتها قامت على أسطورة التقدم الإنساني، وتحديد خط أحادي غائي لحركة التاريخ الكوني.


في كتبه المرجعية الصادرة في العقد المنصرم بعنوان “سياسة التحرر”، يعالج أصول الحداثة الأوروبية في سياقها التاريخي العيني، رابطًا بين ديناميكية الحداثة والاستيلاء على الشعوب والأمم الأخرى، بما ترمز له أسطورة “اكتشاف أمريكا” 1492م التي كانت في الواقع بداية إخفاء ونفي وتدمير ثقافات غنية ومختلفة عن النموذج الغربي، نُظر إليها بأنها بربرية متوحشة وبدائية. ومن هنا ضرورة انطلاق السياسة من الواقع الفعلي للضحايا المضطهدين، المهمشين من أجل كشف استراتيجيات التسلط، والهيمنة، وقلب معادلة المركز والأطراف وبناء نظام عالمي تعددي ومتنوع يحترم الطبيعة وكرامة الإنسان.

 
أما “والتر ميغنولو”، فقد كتب مؤخرًا دراسة هامة بعنوان “انهيار الدولة الوطنية وانبثاق الدولة-الحضارة” (حزيران/يونيو 2025)، لخص فيها جل أفكاره التي قدمها في السنوات الأخيرة.

 

الدراسة تندرج في نطاق مفهوم “العصيان الأبستمي” (Epistemic Disobedience) الذي بلوره “ميغنولو” وإن كانت جذوره تعود لدوسل، وهو مفهوم يعني كسر المركزية المعرفية الغربية وإعادة الاعتبار للأنساق الدلالية التأويلية للشعوب المستعمرة من خلال النفاذ إلى تجاربها التاريخية ومقارباتها الكوسمولوجية والقيمية.

بالنسبة لميغنولو ليست العلوم، والفلسفات والفنون الغربية الأشكال المعرفية الوحيدة المقبولة، وإنما توجد أنماط أخرى من رؤية العالم، ومن تفاسير الكون وتصورات الوجود الاجتماعي لها نفس القيمة والامتياز.


من هذه المنطلقات، يرى أن نموذج الدولة الوطنية الذي صدّره الغرب للعالم ليس سوى تجربة محدودة أضحت اليوم متجاوزة في مهدها الأصلي. ومن هنا ضرورة الانتقال إلى ما يسميه “الدولة-الحضارة” التي هي كيان يقوم على المحددات الأبستمولوجية والثقافية والجيوسياسية التعددية بدلًا من الهوية الإقليمية الضيقة ومركزية السياسة السيادية.


إن هذا النموذج الحضاري هو القادر على استيعاب تحديات العولمة الراهنة التي قضت على الحدود الجغرافية وكرست الارتباط الشامل بين البلدان والمجتمعات. هذا الخيار هو ما يتعين أن تدافع عنه ثقافات وحضارات الجنوب الشامل في آسيا، والشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، التي تمثل الأغلبية العظمى من البشرية، حتى لو كانت محدودة الأثر والتمثيل في مؤسسات النظام الدولي.

 

ما يزال الفكر ما بعد الكولونيالي محدود الحضور في الخطاب العربي المعاصر، رغم أن المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي من رواده الأوائل في مرحلة الخمسينيات، كما أن مؤسس هذا التقليد الفعلي “فرانز فانون” كان يعتبر نفسه جزائريًا، فضلًا عن كون هذا الاتجاه تأثر بقوة بكتاب إدوارد سعيد الشهير “الاستشراق” الصادر سنة 1978.

 

قبل شهور، أصدر المفكر التونسي الصديق فتحي المسكيني كتابًا أثار جدلًا واسعًا بعنوان “هذه الذات ليست لك: صدوع ديكولونيالية”، يمكن اعتباره أول تأسيس فلسفي عربي لفكرة النقد الكولونيالي، من منظور النقد الجذري للحداثة الأوروبية ونمط تعاملها مع المجتمعات والثقافات الأخرى، تركيزًا على حرب الإبادة الجارية حاليًا في غزة.


ومن الواضح أن هذا النقد للكولونيالية يختلف نوعيًا عن سيل من الكتابات العربية الأخرى التي ظهرت في العقود الماضية، ذهبت إلى اعتبار الحداثة “غزوًا ثقافيًا” و”مؤامرة استعمارية خارجية”، بما بدأ بالمدرسة القطبية (سيد قطب ومحمد قطب)، وبلغ أوجه في مدرسة أسلمة المعرفة ومحاربة “التحيز المعرفي” (عبد الوهاب المسيري).

 

في تسعينيات القرن الماضي، كتب الفيلسوف المصري الراحل حسن حنفي كتابه حول ما سماه “الاستغراب” (على منوال وأنقاض الاستشراق)، وأراده نقدًا للمركزية الغربية، بغية “تحجيم الغرب” وإبراز محدودية “وعيه”، لكن مشروع حنفي ولد ميتًا، فلم يتجاوز نقده للغرب مستوى المشاغل الأيديولوجية المباشرة. لقد فات الرجل الذي كان مطلعًا على مدرسة لاتينية أمريكية هامة هي مدرسة “لاهوت التحرير” (التي أراد بناء لاهوت إسلامي مماثل لها) الاستفادة من النقد الفلسفي للكولونيالية الذي بدأ بقوة في المنطقة ذاتها في تلك الفترة.


وخلاصة الأمر، أن نقد المركزية الغربية وما يستلزمه من أدوات أبستمولوجية وتأويلية لا يزال ضعيف الحضور في الساحة الفكرية العربية التي تهيمن عليها شعارات القطيعة الأيديولوجية والنضال التعبوي ضد الهيمنة الاستعمارية.


وهكذا لم يتم تطوير أفكار مالك بن نبي وإدوارد سعيد، ونقد الاستشراق المبكر لدى أنور عبد الملك في بلورة فكر ما بعد كولونيالي عربي، كما أن الاستفادة من أعمال مفكري أمريكا اللاتينية ما يزال ضعيفًا، رغم الحاجة الموضوعية إليها في استراتيجية البناء الثقافي المستقل والعصيان الأبستمولوجي الرصين.