الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

تركيا والمسألة الشرقية في أبعادها التاريخية والإستراتيجية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

هنري لورانس، مؤرخ فرنسي بارز متخصص في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر، وقد خصص عددًا هامًا من كتاباته لما سمّي بالمسألة الشرقية، وهي عبارة تعني ظروف تفكك الإمبراطورية العثمانية في سياق سياسات التدخل الأوروبي ونشوء الدول القومية في شرق أوروبا، وبلدان البلقان والعالم العربي، بالإضافة إلى نشأة تركيا الحديثة.

على عكس المؤرخين الغربيين الذين نظروا إلى الإمبراطورية العثمانية بصفتها حالة استعمار داخل القارة الأوروبية، ودولة مضطهدة للقوميات والديانات التي تتشكل منها، يدعو لورانس إلى النظر إليها في سياق التاريخ التفاعلي المعقد بين الشعوب والقوميات والملل التي يتشكل منها هذا الفضاء الواسع الممتد من البحر الأسود إلى البحر الأبيض المتوسط. ولعل العبقرية السياسية الكبرى للسلاطين العثمانيين تتمثل في بلورة آليات الحكم والسيطرة المناسبة لضبط هذا المجال الإقليمي الواسع شديد التنوع والاختلاف.

لم تكن الحالة الإمبراطورية نشازًا في المنظومة العالمية، بل إن تفكك الدولة العثمانية يندرج في سياق تحول سياسي نوعي مسّ مختلف الدول الإمبراطورية القائمة أوانها في أوروبا، وأهمها الإمبراطورية القيصرية في روسيا، والإمبراطورية النمساوية المجرية.

حسب لورانس، تشكلت النزعات القومية والمطالب الاستقلالية في أطراف الدولة العثمانية (شرق أوروبا والبلقان) على أساس نفس القانون الذي حدث في وسط أوروبا، أي انبثاق الهوية لا على أساس التضامن التعاقدي (فرنسا)، أو الأصول الثقافية التاريخية المشتركة (ألمانيا)، وإنما على قاعدة ثلاثية هي: وحدة الدين، ووحدة اللغة والكيان السياسي المستقل.

لقد شجعت منذ نهاية القرن الثامن عشر الدول الأوروبية وبصفة خاصة بريطانيا وروسيا المطالب القومية للشعوب والطوائف التي انفصلت لاحقًا عن السلطنة العثمانية. ولقد بدأ هذا المسار من اليونان سنة 1821 لتنفصل البلاد عام 1831 عن الإمبراطورية العثمانية، ثم انفصلت بلغاريا سنة 1878، واندلعت الحروب الانفصالية في البلقان سنة 1912.

ما يبيّنه لورانس هو أن نشوء النزعات القومية في السياق العثماني واكبته تصفيات دموية وحروب أهلية طاحنة، أفضت إلى موجة عارمة من التطهير العرقي لم تشتهر منها إلا الحالة الأرمنية، مع العلم أن ما حدث في اليونان وبلاد البلقان لا يقل دموية وشراسة وقد دفع ثمنه من سمّي بالأتراك المسلمين، على الرغم أن الأمر يتعلق بفئات ذات انتماء قومي متعدد وإن كان يجمعها الإسلام، وقد أصبحت لاحقًا من مكونات النسيج القومي التركي.

ولقد بيّن لورانس أن سياسة الملل العثمانية التي كان الغرض منها تنظيم الضرائب العمومية وتسهيل إدارة السكان، أفضت تدريجيًا إلى تحويل المجموعات الدينية إلى شعوب قومية لها مطالب سياسية، مع العلم بأن هذا الوعي القومي حالة مستحدثة، ولها ارتباط مباشر بسياسات التدخل الأوروبي.

ما يهمنا في أبحاث لورانس هو تطبيق هذه النظرية على قيام الدولة الصهيونية وعلى الوعي القومي العربي.

بخصوص الدولة اليهودية، يلاحظ لورانس أنها سلكت نفس نموذج التشكل القومي في شرق أوروبا باعتبار أن اليهود رُفض لهم حق الانتماء إلى القوميات الجديدة المبنية على أساس ديني (أرثوذوكسي أو كاثوليكي)، فاتجهوا إلى تحويل الانتماء الديني إلى هوية قومية باستحداث لغة مشتركة، وإحياء متخيل الدولة المقدسة القديمة.

أما في العالم العربي، فقد كانت الإشكالية القومية أكثر تعقيدًا، بالنظر إلى استحالة تأسيسها على أساس ديني نتيجة لوحدة الدين بين تركيا والشعوب العربية، وباعتبار غياب نزعة عروبية انفصالية حقيقية على المستوى السياسي والأيديولوجي.

ولذا، فإن الوعي القومي العربي لم يكن ليتم خارج سياسات التدخل الأوروبي التي أصبحت نشطة منذ القرن التاسع عشر عبر قرارات الحماية للأقليات الدينية في الشرق العربي، قبل الانتقال إلى إستراتيجيات الانتداب الأوروبي بعد الحرب العالمية الأولى.

ما حدث هو أن بناة تركيا الحديثة (وفي مقدمتهم مصطفى كمال أتاتورك)، استطاعوا الوقوف ضد مخططات التفكيك الأوروبي (معاهدة سيفر 1920)، وصولًا إلى الدولة القومية المستقلة (معاهدة لوزان 1923). أما الشرق الأوسط العربي، فخضع لعملية تشكيل سياسي امتدت إلى سنة 1920.

وعلى عكس الصورة السائدة، يبيّن لورانس أن اتفاقيات سايكس بيكو كانت في حقيقتها مجرد أسطورة، باعتبار أنها لم تطبق عمليًا ولم يوقعها الأفراد الذين تحمل أسماءهم، بل وُقعت في صيغة جديدة من طرف “بول كامبون” سفير فرنسا في لندن، و”إدوارد غري” كاتب الدولة البريطاني للشؤون الخارجية.

وباستثناء الحالة اللبنانية، اعتمدت الخارطة البريطانية الفرنسية التقسيمات الإدارية العثمانية، بالتنسيق غالبًا مع النخب العثمانية العربية التي وقفت بنجاح ضد تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية.

يلاحظ لورانس أن الدول الوطنية الجديدة في العالم العربي قامت على ازدواجية الانتماء السياسي، فهي من جهة ترتكز على الهوية القومية العربية بما تؤدي إليه من مثال الوحدة والاندماج، وهي من جهة أخرى نتاج متخيل محلي كثيرًا ما يعاد بناؤه على أساس خصوصيات وطنية ضيقة، ولو بالرجوع إلى التاريخ البعيد (الفينيقي والفرعوني، وغيرها).

بعد أحداث الربيع العربي والفتنة الداعشية في العراق وسوريا، تجددت حسب عبارة لورانس “المسألة الشرقية” التي تعني تدخل القوى الغربية وفق اتجاهات وسيناريوهات راهنة، لها أثرها على الهندسة السياسية للشرق الأوسط.

ما نريد أن نختم به هذه الملاحظات على أطروحة هنري لورانس هو أن الخارطة الثلاثية التركية-العربية-البلقانية ما تزال تشكل اليوم محور المنظومة الإقليمية الشرق أوسطية في دلالتها الواسعة. ولم يعد اليوم من الممكن الفصل إستراتيجيًا بين هذه المكونات الثلاثة، مع تأكيد استحالة إعادة بعث الهوية العثمانية، أو تبرير أي تدخل غير مشروع في القضايا العربية الداخلية.

كانت الإستراتيجية الأمريكية في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن قد اعتمدت مفهوم الشرق الأوسط الجديد الذي يمتد من شمال إفريقيا إلى أفغانستان، ومع أن هذا المفهوم لم يتحول إلى مرتكز موضوعي لسياسات دولية حقيقية، إلا أنه يعبر عن الارتباط العضوي بين أضلاع الدائرة العربية الإسلامية، وهو ارتباط له خلفيات تاريخية وجيوسياسية بديهية.