الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العرب ونهضة جنوب شرق آسيا
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

في مذكراته الصادرة عام 2018 بعنوان “قصة سنغافورة”، يتحدث  “لي كوان يو” أول رئيس وزراء لهذه الدولة -المدينة الناهضة عن أسباب ومقومات النهوض السنغافوري، مركزًا على خمسة عناصر أساسية، هي:

  1. الانضباط والنظام بدلًا من الديمقراطية الليبرالية التي يرى أنها قد لا تناسب الدول الصغيرة التي تحتاج في نموها إلى الصرامة، والتخطيط المحكم والرعاية التسلطية العادلة. فحين تعتمد مثل هذه الدول الأنظمة التعددية الانتخابية، تُضعف نسيجها الوطني وتفتح الباب أمام الفوضى والتفكك. ومن هنا ندرك حدة القوانين العمومية في سنغافورة، خصوصًا في ما يتصل بمكافحة الجرائم المنظمة، واحترام السلطة ولو بتضييق الحريات العامة والخاصة من منظور المحافظة على الدولة.
  2. البراغماتية العملية التي تعني نبذ كل الخيارات الأيديولوجية الجاهزة، واعتماد الطرق الإجرائية الناجعة، بما يفسر الجمع بين الاقتصاد الرأسمالي الخاص، وسياسات الرفاهية والتدخل العمومي في إدارة الاقتصاد. كان “كوان يو” يكرر دومًا: “لا تسألوا هل الأمر يمين أم يسار، بل اسألوا هل هو فعال أم لا؟”.
  3. الاستحقاق والانتقاء الوظيفي: باختيار القيادات والمسؤولين من ذوي الكفاءات العالية والمسار المهني المثالي، والاعتماد على النخب المتميزة، وتوفير الأجور والمستحقات المناسبة لها.
  4. التعددية الثقافية والامتزاج الاجتماعي، حفاظًا على الانسجام والتوازن بين مختلف مكونات الأمة، وضبط السياسات الثقافية والإعلامية والاجتماعية من هذا المنطلق لكبح كل عوامل التفرقة، والفتنة والصراع الأهلي. في هذا السياق، نشير إلى إجراءات السياسة السكنية الاجتماعية الهادفة إلى تعايش القوميات والديانات في حيز مشترك، والسياسات التربوية التي تعتمد الازدواجية اللغوية مسلكًا رسميًا للتعليم.
  5. الرؤية المستقبلية: من منظور القراءة اليقظة والموضوعية لتطورات وتفاعلات الإطار الإقليمي والنظام الدولي، واعتماد سياسة خارجية مرنة وفعالة ملائمة لهذه المعطيات. المهم بالنسبة لـ”كوان يو” هو استمرار الدولة واستقرارها، عن طريق تأكيد حاجة العالم لسنغافورة التي وإن كانت لا تتمتع بثروات طبيعية،  إلا أن لها إمكانات مالية وتجارية وتقنية، تعزز موقعها على الخارطة العالمية.

لقد اعتمدت دول جنوب غرب آسيا (تايلاند، وفيتنام، وماليزيا، وأندونيسيا وبروناي..) على العموم هذه المقاربة مع اختلافات جزئية ليس هنا مجال التعرض لها، فسلكت المسلك السنغافوري (التنمية الموجهة عن طريق الدولة)، وجمعت في بناء سياسي فريد بين سياسات العدالة والنظام من جهة، ومن جهة أخرى الانتخابات التعددية التي هي في الغالب محددة في أطر استحقاقية قبلية.

في تسعينيات القرن الماضي، فجّر رئيس الوزراء السابق “لي كوان يو” جدلًا واسعًا حول ما سماه بالقيم الآسيوية المناسبة لمجتمعات جنوب آسيا التي تختلف في بنياتها السياسية والاقتصادية عن الغرب الليبرالي، وإن كانت قادرة من خلال مقارباتها الخصوصية على بلوغ مستويات متقدمة من التحديث والتنمية.

وفق “كوان يو”، تتمثل هذه القيم أساسًا في الرابطة الأسرية الواسعة، والنظام، والسلطة، والتراتبية والانسجام المجتمعي، مقابل القيم المرجعية في الغرب المرتكزة على الذاتية، والفردية وحرية التعبير المطلقة.

ولقد دافع المفكر والسياسي السنغافوري “كيشور محبوباني” عن هذه الرؤية في كتابه “العيش في القرن الآسيوي” (صدر عام 2024)، حيث يؤكد أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن آسيا المؤهلة لقيادة النظام الدولي، من خلال قواها الكبرى مثل الهند، والصين ونماذجها التنموية الفاعلة مثل سنغافورة.

في كتابه المذكور، يرى “محبوباني” أن سنغافورة لعبت تاريخيًا دور قاطرة النمو في جنوب شرق آسيا، بتحويلها من دولة صغيرة من دون موارد طبيعية إلى مركز مالي وتجاري عالمي. وقد فسر هذا النجاح الباهر بعوامل ثلاثة أساسية، هي: 1) الحكم الرشيد الخالي من الفساد، 2) سياسة الاستحقاق والاختيار الحكيم للإدارة البيروقراطية والانفتاح الدولي باستقطاب الاستثمارات الخارجية، 3) التوازن الدبلوماسي الدقيق بين القوى العالمية الرئيسية.

إن هذه العوامل حسب “محبوباني” تصدر عن القيم الآسيوية الأصيلة من براغماتية، وتخطيطية عمومية وسياسات اجتماعية غير فردية، وقد أظهرت نجاعتها في العالم الآسيوي بمفهومه الواسع.

لقد وجهت انتقادات كثيرة لنموذج التحديث الآسيوي، من أهمها نقد المفكر الأمريكي ذائع الصيت “فرنسيس فوكوياما” الذي اعتبر أن الحالة السنغافورية استثناء لا يمكنه الصمود مستقبلًا،” معتبرًا أن أي تنمية اقتصادية ناجعة لا بد أن تؤدي إلى حالة ديمقراطية ليبرالية أو تنهار كليًا.

بيد أن المفكرين الآسيويين من الصين وجنوب شرق آسيا يردون على هذه الرؤية بالقول إن تمديد رؤية العالم الغربية إلى المجال الآسيوي مقاربة خاطئة، لكونها لا تدرك الخصوصيات الثقافية والحضارية للمجتمعات الآسيوية القادرة على إبداع النماذج الاقتصادية والسياسية الملائمة لميزاتها الذاتية.

في الفكر العربي، جرت محاولات عديدة لتسويق الخيار الآسيوي في التنمية والتحديث، من أهمها كتاب المفكر المصري أنور عبد الملك “ريح الشرق” الصادر سنة 1983، الذي يتبنى فيه المسلك الآسيوي لتحقيق النهضة العربية المنشودة مع فك الارتباط بالمركز الغربي.

ما نريد أن نخلص إليه هو أن النموذج الآسيوي قد يكون ناجعًا في العالم العربي في جوانبه الناجحة، وبصفة خاصة النظام والانضباط على أساس العدالة الاجتماعية والاستحقاق المهني، والانفتاح على السوق العالمية والبراغماتية العملية غير المؤدلجة. ففي التجربة الآسيوية دروس مفيدة في بناء الهندسة الاجتماعية والسياسية الناجعة في مجتمعات شديدة التنوع من حيث التركيبة الأهلية والسكانية كما هو شأن المجتمعات العربية. كما أن النموذج الآسيوي يقدم لنا طريقًا بديلًا عن الجدل العقيم حول أولوية التنمية أو الديمقراطية من منظور الاستقرار السياسي، وشرعية الإنجاز والرفاهية الاجتماعية، وهي المطالب الموضوعية العميقة التي لا محيد عنها وهي في الأساس مرتكز الديمقراطية الليبرالية وشرطها الحقيقي.

كان أنور عبد الملك يقول إن شرط التحديث الناجع في العالم العربي هو الاندماج في المنظومة الشرقية بمفهومها الواسع الذي يضم العالم الهندوسي-الكونفشيوسي، بالإضافة إلى العالم الإسلامي بتنوعه الديني والقومي. لهذه الرؤية مسوغات وجيهة، لكنها تتجاهل عمق التداخل الفكري والتاريخي مع الغرب في بوابتيه الأطلسية والمتوسطية.