بقلم نرمين وليد حسين
برنامج مركز النهضة للدراسات الاستراتيجية: تمكين المرأة والشباب/القضية الفلسطينية
مع إحياء اليوم العالمي للصحة النفسية، الذي يُحتفل به عالميًا في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر، يغدو من الضروري إبراز أهميته بالنسبة لأولئك الذي يعانون في مناطق الصراع. في الواقع، تُخلّف الحروب جروحًا تتجاوز الإصابات الجسدية بكثير، وبذا تترك ندوبًا دائمة في الصحة النفسية قد تدوم مدى الحياة. منذ اندلاع الحرب على غزة عام 2023، قُتل أكثر من 67 ألف فلسطيني، 70% منهم من النساء والأطفال. ومن بين القتلى ما لا يقل عن 20 ألف طفل، بمعدل طفل يُقتل كل ساعة على مدار الـ 24 شهرًا الماضية. ومع ذلك، يبقي العدد الحقيقي مجهولًا، ومن المُرجّح أن يكون أعلى من ذلك بكثير، إذ لا تشمل بيانات الوفيات الرسمية الأشخاص الذين لقوا حتفهم تحت الأنقاض أو من هم في عداد المفقودين. ومع ذلك، تتجاوز الخسائر العاطفية والنفسية الناجمة عن هذا الصراع ما هو أبعد من الإصابات الجسدية، لتتجلى في أزمة الصحة النفسية التي تحمل أبعادًا مثيرة للقلق، والتي تفاقمت جراء الدمار الواسع النطاق وغير المسبوق الذي طال المنازل والبنية الأساسية، وانهيار الخدمات، وفقدان موارد الغذاء والمياه.
تتحمل نساء غزة عبئًا غير متناسب. فقد تأثرت صحتهن النفسية بشدة، وتُظهر الدراسات معاناة أكثر من 75% منهن من القلق والاكتئاب المزمنين. وكثيرًا ما يُبلغن عن شعورهن بالخوف والإرهاق، مع محدودية فرص الحصول على دعم الصحة النفسية، واضطرارهن إلى التعامل مع الضائقة النفسية بمفردهن وفي عزلة. وقد تآكل شعور النساء بالاستقرار على نحو ملحوظ جراء النزوح واكتظاظ الملاجئ، ففاقم الافتقار إلى الخصوصية، والضروريات الأساسية والسلامة في هذه الظروف من ضائقتهن النفسية، إضافة إلى زيادة مسؤولياتهن من حيث تقديم الرعاية، كما ترد بلاغات منهن مفادها التضحية بصحتهن لرعاية أسرهن، وغالبًا ما يكنّ هنّ مقدمات الرعاية الأساسيات أو الوحيدات لأطفالهن. من جهة أخرى، يخلق الجوع، إلى جانب العجز عن توفير الطعام لأحبائهن، عبئًا نفسيًا يصعب تحمله. علاوة على ذلك، أدى التعرض المستمر للعنف والفقد إلى تفاقم صدمتهن، المصنفة على أنها اضطراب صدمي مستمر معقد؛ نظرًا لطبيعتها المزمنة التي لا هوادة فيها.
كما سببت الحرب تعطيل الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية الإنجابية الأساسية إلى حد كبير، إذ لم تعد أبسط الضروريات مثل منتجات النظافة الشهرية متاحة بسهولة، ما يسلط الضوء على طبيعة الوضع الإنساني الكارثية. وغالبًا ما تلجأ النساء إلى حلول مؤقتة يعانين بسببها من التهابات شديدة نتيجة نقص النظافة أو المياه النظيفة ببساطة. فضلًا عن ذلك، فمع تدمير أكثر من 85% من مرافق الرعاية الصحية، أُجبرت النساء أيضًا على الولادة في ملاجئ مكتظة تفتقر إلى الرعاية الطبية المناسبة في الغالب، ومن ثم جرى تسريح العديد منهن بعد ساعات فقط من الولادة، الأمر الذي أدى إلى إصابتهن بمضاعفات خطيرة. تشير التقارير إلى زيادة كبيرة في حالات الإجهاض (حوالي 300%) المرتبطة بالصدمات وعدم كفاية الرعاية المقدمة لهن، إضافة إلى خسارة المواليد بسبب الإجهاد، وسوء التغذية، ونقص المساعدة الطبية والإمدادات الطبية الأساسية. إن العجز عن الوصول إلى الحقوق الصحية الأساسية لا يمثل تحديًا لرفاه الفرد فحسب، بل يهدد حقوق السكان بأكملهم.
وقد يُصنّف استهداف الاستقلالية الإنجابية المنهجي، بالإضافة إلى حرمان النساء من الرعاية الصحية الإنجابية الأساسية، عنفًا إنجابيًا بموجب القانون الدولي. فمن قصف مستشفيات الولادة وعيادات الخصوبة، إلى الولادات القسرية في الخيام والعمليات الجراحية التي تجري دون تخدير، يُستخدم هذا النوع من العنف سلاحًا للهيمنة والمحو، وينبغي للمحكمة الجنائية الدولية الاعتراف بهذه الأفعال وملاحقتها قضائيًا باعتبارها أشكالًا من الاضطهاد.
رغم هذه العقبات الهائلة، تُظهر النساء في غزة قدرةً هائلةً على الصمود، إذ يدعمن أسرهن ومجتمعاتهن من خلال مجموعةٍ من الاستراتيجيات الاجتماعية والمجتمعية، كالاعتماد على شبكات أسرية ومجتمعية قوية، والانخراط في الممارسات الدينية والروحية، حتى في أحلك الظروف. وتكشف التقارير الواردة من الميدان عن أساليب التأقلم التكيفي، بما في ذلك قصص أمهاتٍ ينظمن أنشطةً تعليميةً لأطفالهن أو يعملن ضمن شبكات مجتمعية لتقديم الدعم في مجال الصحة النفسية. كما تستخدم بعض النساء أساليب رسميةً مثل مجموعات دعم الأقران، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي المهني، والتدخلات المُكيفة ثقافيًا، بما يخلق مساحاتٍ آمنة لعلاج القلق والمخاوف. إن هذه القدرة على الصمود دليلٌ على قوتهن والدور الحاسم الذي يلعبنه في إعادة بناء المجتمع. وبهذه الطريقة، فهن يُجسدن حرفيًا روح الصمود الفلسطينية ويشاركن في إعادة بناء الشعور بالحياة الطبيعية وسط الفوضى.
بينما نحتفل بالذكرى الخامسة والعشرين لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1325 بشأن المرأة والسلام والأمن، بهدف إعلاء أصوات النساء العربيات وقيادتهن في جهود بناء السلام، يغدو علينا أن ندرك أن السلام المستدام لا يمكن تحقيقه دون معالجة التحديات الفريدة التي تواجهها النساء في مناطق النزاع. لقد أظهرت نساء غزة قوة ملحوظة في مواجهة الشدائد، وكثيرًا ما تولّين أدوارًا قيادية في مجتمعاتهن.
وفي ضوء الخطوات السياسية الأخيرة نحو السلام في غزة، فإن من الواجب علينا دعم صوت المرأة الغزية وإعلاء شأنه. إن تعزيز حقوق المرأة الغزية يتجاوز مجرد مناصرتها؛ بل يشمل العمل الجاد على تهيئة مساحات تُسمع فيها أصوات النساء الغزيات وتُحترم، وذلك لمنحهن فرصة التعافي، بما يعني الاستثمار في موارد الصحة النفسية المتاحة والمراعية للثقافات، الأمر الذي يُمكّن النساء من الحصول على الدعم اللازم للتعافي والازدهار. فعند منح صحة المرأة النفسية الأولوية، فإنها تصبح أكثر قدرة على دعم أسرها ومجتمعاتها، ما يُمهّد الطريق لمجتمع يتمتع بالمزيد من السلام والعدل.