الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

النهضة الأوروبية والدولة السيادية: ماكيافيلي
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

في عصر النهضة الأوروبية، تغير جذريًا مفهوم الدولة والمنظور السياسي للحكم، بالقطيعة مع تراث اللاهوت السياسي وأفكار الفضيلة المدنية والدولة -المدينة المستمدة من العهد اليوناني.

لقد ارتبط هذا التحول بثلاثة مفكرين بارزين هم: الإيطالي “نيقولا ماكيافيلي” (توفي في 1526)، والفرنسي “جان بودين” (توفي في1596 ) والألماني “صمويل بوفندورف” (توفي في1694 ). ومع أن الثلاثة لا تنطبق عليهم صفة الفلاسفة، بل كانوا أقرب للمؤرخين والسياسيين والقانونيين، إلا أنهم أسسوا لتقليد جديد في المقاربة النظرية للشأن العمومي، سيكون له تأثير واسع في عصور الليبرالية والتنوير.

ولا شك في أن أهم الثلاثة هو “ماكيافيلي” الذي يُختزل عادة في عبارة “الغاية التي تبرر الوسيلة”، مع أن فكره أعمق وأكثر رصانة من هذه المقولة الشائعة.

عاش “ماكيافيلي” في دولة ممزقة، تخضع لبلدان أوروبية محتلة، فكان همه هو بناء سلطة سياسية قوية قادرة على تحقيق المصلحة المشتركة، وتوفير الأمن والاستقرار لرعاياها.

ما يهم “ماكيافيلي” في كتاب “الأمير” هو استقلالية النظام السياسي في منطقه الوظيفي المنحصر في فاعلية الممارسة والقدرة على افتكاك الحكم والمحافظة عليه، دون قيود تضعها المؤسسة اللاهوتية أو الأخلاقيات الموروثة.
في كتابه الهام المنشور بعد وفاته بعنوان “ماكيافيلي ونحن”، يبين الفيلسوف الفرنسي الشهير “لويس ألتوسير” أن ما يميز “ماكيافيلي” هو كونه أول من فكر بجدية في إشكالية بناء السلطة، أي لحظة تأسيس الحكم من خلال نظام سياسي يخرج المجتمع من الفوضى والفتنة إلى الطاعة والخضوع.

ولئن كان فكر “ماكيافيلي” كثيرًا ما يختزل في مقاربته التي تفصل السياسة عن الأخلاق، إلا أن غرضه الحقيقي هو إبراز خصوصية واكتمال الفعل السياسي بصفته مدار قوة، ورهانات صراع وتنافس، بدلًا من النزعة المثالية التقليدية التي سيطرت على الفكر السياسي القديم والوسيط في بحثه عن أفضل نظم الحكم.

إلا أن “ألتوسير” يخطئ في قراءته الماركسية لـ”ماكيافيلي” الذي يرى فيه أول مفكر تبنى نظرية الصراع الطبقي واعتمد الواقعية الثورية، والحال أنه وإن توقف عند أبعاد الصدام ورهانات القوة والعنف، حافظ على التصور الإطلاقي للدولة من حيث هي التعبير عن النظام الاجتماعي الموحد والمتماسك، وهي فكرة أبعد ما تكون عن المنهج المادي الماركسي.

لم يعتبر “ماكيافيلي” أن الدولة أداة من أدوات الصراع الطبقي ومظهر له، بل رأى أنها حاجة مجتمعية لا محيد عنها، غرضها الأوحد هو ضبط النظام المدني القائم بأنجع الوسائل المتاحة، ولو على حساب القناعات الدينية والأخلاقية.

لم تكن نقطة انطلاق “ماكيافيلي” المحددات المعيارية للعدل في النظام السياسي، ولذا لم يرجع في كتابه الأساسي “الأمير” إلى فلسفات الفضيلة والعدالة، بل انطلق من الظرفية الإنسانية العينية ومن تجارب الفعل السياسي الحية، واستند بقوة إلى عبر التاريخ وأحداث الدول.

ولذا، نوافق الفيلسوف الألماني الأمريكي “ليو شتراوس” في قوله إن إشكالية “ماكيافيلي” الأساسية ليست السياسة من حيث هي ممارسة معيارية، بل من حيث هي تقنية للحكم متمحورة حول القوة، والحرب وتسيير شؤون الناس. ليس الغرض من السياسة البحث عن الخير الأسمى أو الخير المشترك، بل هي “علم تقني إجرائي” يتحدد بكامله في مجال السلطة والتحكم.

ومع أنه من غير الدقيق القول إن “ماكيافيلي” أسس تقليد العلوم السياسية بمفهومها المعاصر، إلا أنه دون شك بلور مفهومًا إجرائيًا وضعيًا لمقاربة السياسة في مجالها الخاص، دارسًا ظواهر العنف والحيلة والإكراهات العملية، وغيرها، التي تطبع الميدان السياسي في تميزه. ذلك ما يعنيه موقفه من الأخلاق التي ليست بالضرورة متعارضة مع النجاعة السياسية، لكنها ليست مظلة عليا ولا مرجعية مقدسة لها.

لقد رأى “كارل شميت” في هذه المقاربة تعبيرًا عن نزعته الأمرية التقريرية التي تخرج السياسة من كل الضوابط والقيود الأخلاقية والقانونية، ما دام موضوعها ليس تحقيق العدالة وإنما استمرارية الدولة في سلطتها الكاملة الاستثنائية التي هي المضمون الحقيقي للسيادة. ومن هنا، لا يمكن ربطه بالتقليد الليبرالي المناوئ للسلطة المطلقة على الأفراد، إلا أن هذه القراءة تعاني من ثغرات كبرى في مقدمتها تصور القانون بصفته نتاج الإرادة العمومية القاهرة، بينما ظل “ماكيافيلي” محافظًا على معايير القانون الطبيعي وإن ربطها بالنجاعة السياسية العملية.

لئن كان الكتاب العرب المعاصرون ذهبوا في الغالب إلى قراءة أطروحة “ماكيافيلي” من زاوية أخلاقية محضة، إلى حد المماهاة بين الماكيافيلية والمسلك الانتهازي غير الأخلاقي، إلا أن العديد من الباحثين تفطن إلى تشابه آراء “ماكيافيلي” مع تقليد عريق في التراث الإسلامي الوسيط هو تقليد “الأدب السياسي” أو “مرايا الحكام”، الذي كان متمحورًا حول تقنيات السلطة، ووسائل افتكاكها والمحافظة عليها. إنه التقليد الذي نلمسه بوضوح في كتابات ابن المقفع، والجاحظ والمرادي الحضرمي، وغيرها، وقد درسه كتاب معروفون من علي الوردي، ورضوان السيد، إلى كمال عبد اللطيف وعز الدين العلام، وغيرهم.

لقد ذهب بعض هؤلاء الباحثين، تأثرًا بنظرية محمد عابد الجابري حول العقل السياسي العربي، إلى اعتبار هذه النصوص تكريسًا للتسلط والطغيان ودولة الاستبداد، في حين رأى آخرون أنها بداية نمط من عقلنة الفكر السياسي بالخروج من أحكام السياسة الشرعية والفقه السلطاني.

الواقع أن القراءتين كلاهما زائفة، فلا هذه الأدبيات اضطلعت بدور الغطاء الأيديولوجي لما سماه الجابري “أخلاقيات الخنوع والطاعة”، ولا هي أشكال ممهدة للقطيعة الماكيافيلية في الفكر السياسي، بل هي تندرج في قلب معادلة الفكر السياسي الإسلامي التي لخصها المؤرخ البارز عبد الله العروي في يوتوبيا الخلافة (الشرعية العليا المستحيلة)، وواقعية الدولة من حيث هي حالة هيمنة وقوة وإن كانت ضرورة دينية ومجتمعية.

ما نخلص إليه هو أن “ماكيافيلي” يندرج في سياق فكر النهضة الأوروبية ويؤسس للقطيعة الجلية في النظر إلى الدولة كحالة مجتمعية لها منطقها الداخلي، ومن هنا نقاط التقائه مع التقليد العربي الإسلامي الخالي من النظرة التجسيدية للدين في أشكال سياسية قائمة، لكن “ماكيافيلي” من جهة أخرى يمهد الطريق لنظريات العقد الاجتماعي والسيادة المطلقة للدولة، ومن هنا الفروق الجوهرية بينه والفكر العربي الكلاسيكي.