الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

النهضة الأوروبية والدولة السيادية: جان بودين
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

عالجنا في المقالة السابقة فلسفة “ماكيافيلي” السياسية، وقد آثرنا في هذه المقالة التعرض لفكر فيلسوف آخر أثّر بقوة في العقل السياسي الحديث، هو “جان بودين” المتوفى سنة 1596.

عندما يُذكر بودين، لا بد أن يذكر كتابه الأساسي “فصول ستة حول الجمهورية” الصادر سنة1576 ، وفيه يؤسس لأطروحة السيادة والشرعية القانونية للدولة التي هيمنت بقوة على الفكر السياسي الحديث والمعاصر.

في هذا الكتاب، الذي ألفه في مرحلة اشتداد الصراع الديني في بلاده (فرنسا)، يطرح مسلك الدولة القادرة على ضمان السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي، في ما وراء التناقضات والنزاعات الدينية التي عادة ما تكون سبب الحروب الأهلية. في هذا السياق، يستبدل “بودين” القانون الطبيعي والعقل التعليلي بالمرجعية الدينية، ويفكر في أفضل السبل لقيام دولة قوية قادرة على حفظ الأمن الجماعي.

في الفصل الأول من الكتاب، يبدأ بودين بتعريف السيادة في محدداتها الأربعة المحورية: إنها سلطة الدولة المطلقة والدائمة التي لا تقبل الانقسام ولا التنازل.

فهي مطلقة، لكون الدولة لا تخضع للقوانين البشرية القبلية، بل هي التي تصوغها وتضعها بحرية كاملة، وهي دائمة باعتبار أنها لا تتعلق بحاكم بعينه، بل تستمر مع الدولة في حركيّتها اللامتناهية، وهي غير قابلة للتجزؤ لكونها تتجاوز كل تمفصلات الدولة، ولا يمكن للحاكم أن يتنازل عنها باعتبارها تتعلق بالدولة المطلقة.

في كتابه المذكور، يحدد “بودين” عدة مهمات أساسية للسلطة السيادية من بينها: الفاعلية التشريعية أي وضع القوانين العمومية، وإقامة العدالة، وشن الحرب وحفظ السلم، وتعيين مسؤولي الإدارة العمومية، وجلب الضرائب وجمعها وغيرها، وهي كلها مسؤوليات ما تزال إلى اليوم من مشمولات الدولة الحديثة.

في الفصل الثاني من كتابه حول الجمهورية، يتحدث “بودين” عن أنظمة الحكم المختلفة، دون تجاوز التقسيم الشهير الذي يعود للعصر اليوناني بين الملكية، والأرستقراطية والجمهورية، رافضًا سلطة الاستبداد وحالة الفوضى، مفضلًا النظام الملكي المعتدل الذي يحكم بالقوانين الإلهية والطبيعية.

فالحاكم وإن كان يستند إلى سيادة الدولة المطلقة، لا يمكنه وضع تشريعات تتلاءم مع أهوائه ومصالحه الخاصة، بل عليه أن يستند للحق الطبيعي وفق العقل الذي هو التعبير عن الشرع الإلهي في قدسيته العليا.

في الفصل الأخير من كتابه، يتعرض “بودين” لأسباب عظمة وانهيار الدول من خلال التحليل التاريخي، معتبرًا أن الدول تسمو وتتعزز بالعدل والاعتدال، وتضعف وتضمحل بالفساد، والظلم والانقسام الديني.

في كتاب حول “الحوار الفلسفي الديني” (ألفه سنة 1588) متخيلًا نقاشًا فكريًا بين علماء دين من ملل شتى (يهود، ومسلمون، وكاثوليك وبروتستانت)، يدعو إلى فكرة الديانة الطبيعية القائمة على العقل ومحض التوحيد، دون الدخول في التفصيلات العقدية التي تفرق بين أتباع الديانات، ومن هنا دفاعه عن التسامح الديني ودعوته للتعاون على أساس أخلاقي وقيمي، وإخراج القوانين العمومية للدولة من تضارب المصالح والمواقف بين المواطنين ذوي الانتماءات العقدية المتصادمة.

لا شك في أن نظرية السيادة المطلقة، التي وضعها “بودين” في نهاية القرن السادس عشر فرضت نفسها لاحقًا على الفكر السياسي الأوروبي وقد تطورت في ثلاثة اتجاهات كبرى: نظريات التعاقد الاجتماعي التي أسست الحالة السياسية على الإرادة المشتركة التي نظر إليها الليبراليون الأوائل (“هوبز” خصوصًا) من منطلق الأمن الجماعي والسلم الأهلي، والشرعية القانونية للدولة التي تبلورت لاحقًا في فكرة احتكار الدولة للعنف وبناء العقيدة العمومية على العقلانية البيروقراطية (نظرية عالم الاجتماع الألماني “ماكس فيبر”)، والأطروحة العلمانية في دلالتها الواسعة التي تعني إخراج المعتقدات الدينية الخصوصية من المجال العمومي.

لم تكن هذه الأفكار واضحة، جلية، في كتابات “بودين”، لكن نظريته في الدولة السيادية القانونية بلورت دون شك الإطار النظري الواسع للنظريات السياسية الحديثة، التي أشرنا إليها آنفًا.

هل استوعب الفكر النهضوي العربي نظرية السيادة المطلقة التي وضعها “جان بودين” في نهاية القرن السادس عشر؟

من المعروف أن عموم الدول العربية اعتمدت في بنائها الدستوري فكرة الدولة السيادية، أي إناطة كل سلطات التشريع والقرار والحكم بالدولة من حيث هي المسؤولة عن تدبير المجال العمومي والتعبير عن الهوية المشتركة.

إلا أن هذا التصور واجه مشكلتين أساسيتين، تتعلق أولاهما بحقيقة العلاقة بين دائرة السلطة التنفيذية الفعلية والدولة من حيث هي فكرة مطلقة في مجتمعات لم ينضج فيها التمايز بين البعد السياسي المباشر والرابطة العمومية المشتركة العليا، وتتعلق الثانية بمصدر التشريع العمومي الذي هو في الغالب مستند إلى أحكام الدين ونصوصه المرجعية لا إلى التواضعات القانونية.

في كتابه “الدولة المستحيلة” الذي أثار جدلًا واسعًا قبل سنوات، يذهب وائل حلاق إلى أن مفهوم السيادة لا يمكن استيعابه في السياق الإسلامي، لسبب عقدي عميق هو اختصاص الله تعالى بالحاكمية والسيادة، واستحالة ترجمة هذه الصفة الإلهية المطلقة في بناء سياسي بشري (الدولة).

لقد أشار إلى هذه الملاحظة مفكرون بارزون قبل حلاق، في مقدمتهم المؤرخ المغربي عبد الله العروي وعالم الأنثروبولوجيا طلال أسد، لكن الأول منهما استنتج من هذا الانزياح بين الدولة الوضعية والشرعية الدينية الاتجاه الواقعي الذي طبع تعامل الفقهاء مع السياسة بصفتها شأنًا تدبيريًا لا قداسة له، في حين رأى أسد أن الخصوصية الإسلامية تفرض إعادة تصور الدين الذي عادة ما يختزل في القناعات الفردية الذاتية، تأثرًا بالنسق المسيحي الذي هو خلفية التجارب السياسية الحديثة.

ما تميز به حلاق هو القول بتصادم الشرعية الأخلاقية للدولة في التقليد الإسلامي وسيادة الدولة الحديثة، وفضلًا عن كون هذا التصادم هو مجرد فرضية عقدية وليس حقيقة تاريخية، فإن القول بالتصادم يفضي إلى مأزق راهن يتمثل في مصادرة عجز المجتمعات المسلمة عن بناء دولة وطنية حديثة يتمخض لها الولاء، وتتمتع بكامل سلطات القرار والأمر.