الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الشاطبي وابن خلدون: مرجعان لمفكري الإصلاح، بقلم د. علي أومليل، المفكر المغربي وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

علي أومليل

عضو مجلس أمناء منظمة النهضة العربية (أرض)

لماذا رجع مفكرو الإصلاح إلى الشاطبي وابن خلدون أكثر مما رجعوا إلى غيرهما؟

أبو إسحق الشاطبي وعبدالرحمن ابن خلدون عالمان متعاصران من القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي. الأول أندلسي والثاني أصوله أندلسية وتكوينه العلمي والسياسي مغاربي. كل واحد منهما أعلن بفخر واعتزاز أنه وضع علماً جديداً لم يُسبق إليه: الأول علم مقاصد الشريعة، والثاني علم العمران أو الاجتماع الإنساني.

رجع مفكرو الإصلاح إلى الشاطبي نظراً لجدوى فكره المقاصدي في بناء فكرهم الإصلاحي. فالشاطبي يدعو إلى عدم الوقوف عند حرفية النصوص الدينية، بل توخي مقاصدها. فللشريعة مقاصد، تدور كلها حول المصلحة وهناك مصالح ورد بشأنها “دليل“، أي نص شرعي، إلا أن هناك مصالح أخرى لم يرد في موضوعها دليل، وهي التي سمّيت بالمصالح المرسلة.

ولهذه المصالح المرسلة أهمية كبرى في عصر المسلمين الحديث: فقد استجدّت فيه أمور لم يعرفوها من قبل، كما أصبحت الحاجة ملحّة إلى اقتباس إصلاحات في نظام الدولة وإدارتها، والنظام المالي والجبائي، وإصلاح مناهج التربية والتعليم وغيرها. لقد اتسع إذن مجال المصالح المرسلة، فاقتضت فتح باب الاجتهاد لتقعيد شرعي للأفكار والنّظم المقتبسة من البلدان المتقدمة، ومن أوروبا بالتحديد.

ذلك لأن فكر إصلاحيينا كان يدور حول ثنائية التقدم والتأخر. ولا بد من إصلاح شامل لطي التأخر، وهو ما يقتضي شيئين: الأول، العودة إلى إسلام الأصول بتجاوز التقليد وقراءة النصوص الدينية الأصلية مباشرة، والثاني اقتباس أسباب التقدم، أي أفكار وتنظيمات من أوروبا المتقدمة.

تغيّر إذن مفهوم الإصلاح في العصر الحديث عن مفهومه القديم للجوئه إلى الاقتباس من الآخر، من خارج الإسلام، بخلاف المفهوم القديم للإصلاح، والذي كان فيه الإسلام مكتفياً بذاته دون حاجة للاقتباس من خارجه. إن الاقتباس من خارج المنظومة الإسلامية يعني أن هناك تسليماً بواقع تأخر المسلمين، وهو تسليم جديد لا نجده عند الفقهاء القدماء. فالتسليم بالتأخر الحضاري واقع جديد إذ إن المسلمين في الماضي رغم هزائمهم العسكرية أمام قوى أوروبية إبان الحروب الصليبية أو أثناء التوسع الإيبيري البرتغالي والإسباني في أقطار المغرب، لا نجد عند مفكريهم المعاصرين لهذه الهزائم شعوراً بالتأخر الحضاري تجاه القوى الأوروبية الغالبة. والمثال على ذلك أيضاً الشاطبي نفسه والذي اعتبر نفسه، فقد انكمشت رقعة الأندلس في عهده منحصرة في مملكة غرناطة بعد أن سقطت بقية المدن والقرى والقلاع الأندلسية في قبضة الإسبان. مع ذلك فلا نجد عند هذا الفقيه الأندلسي المصلح المجتهد أي شعور بتأخر حضاري للمسلمين تجاه الإسبان، كما لا نجد في مشروعه الإصلاحي أي اقتباس من خارج الإسلام.

أما ابن خلدون، فقد رجع الإصلاحيون المعاصرون إلى مقولته “إن الظلم سبب خراب العمران” لنقد الحكم الاستبدادي في بلدانهم والذي اعتبروا نظامه السبب في تأخرها. ورجعوا إلى رأيه في أن التجارة مفسدة للسلطة لينتقدوا فساد الجمع بين الثروة والسلطة. ورجعوا إلى المفهوم الخلدوني للعصبية للدعوة إلى وحدة الأمة لأن العصبية قوة. إلا أن إصلاحيينا لم يرجعوا إلى ابن خلدون فيما هو أهم: وهو استخلاص النتيجة المنطقية لفكره العمراني، وهي مدنية نظام المجتمع والدولة.

موضوع علم العمران الخلدوني هو المجتمع، وموضوع مقاصد الشريعة للشاطبي هو ضبط المجتمع بأحكام الشريعة. ابن خلدون بحث في المجتمع كما هو، لأن للمجتمع “طبائعه”، أي ظواهره وقوانينه، فوضع العلم الخاص بالمجتمع ولم يسبقه أحد إليه. أما الشاطبي، فيتناول المجتمع بمعيار أحكام الشريعة. فلا شرعية لأحوال المجتمع ولما يطرأ عليه، بل شرعيتها في مطابقتها لأحكام الشريعة، وهي أحكام ثابتة، فمهما تغيرت أحوال المجتمع وتبدلت عادات أهله فإن أحكام الشريعة ثابتة. فالشريعة لا تتغير لتساير تغير أحوال المجتمع: “وإلا لاقتضى ذلك اختلاف التشريع”. كما يقول. لا شرعية إذن لما يطرأ على المجتمع من تغير عند الشاطبي إلا إذا وافق أحكام الشريعة. أما عند ابن خلدون، فالتغير من طبيعة المجتمعات: “فأحوال المجتمع والأمم وعوائدهم ونِحَلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف في الأيام والأزمنة والانتقال من حال إلى حال”. من هنا، فإن أكبر أخطاء المؤرخين هو “الذهول (أي الغفلة) عن تبدل الأحوال”. وهكذا تكون أحوال المجتمع وقد تبدّلت، لكن غشاوة الماضي واقعٌ قد تغيّر. موضوع علم العمران الخلدوني إذن هو المجتمع كما هو وليس بحسب ملاءمته أو مناقضته لأحكام الشريعة كما عند الشاطبي، بل “بمقتضى طبيعة العمران ووجود البشر، لا بما يخصها من أحكام الشريعة“.

والسؤال: إذا كان ابن خلدون قد اكتشف أن للعمران أو المجتمع طبائعه، أي ظواهره وقوانينه الموضوعية، ووضع العلم الخاص به، فلماذا لم يطبق علمه الجديد على موضوعه الطبيعي، أي المجتمع، بل رأى تطبيقه في تصحيح أخبار التاريخ وكتابته كتابة علمية؟

الجواب الذي نراه هو أن الشيء، أي المجتمع لم يوجد بعد. طبعاً وُجد المجتمع منذ أن وُجد البشر، ولكننا نعني به المجتمع المدني الحديث، الذي استقلت فيه الدولة عن الدين، والذي له ديناميته الخاصة وتنظيماته السياسية والمهنية من أحزاب ونقابات، وحركاته الاجتماعية. وحين وجد هذا المجتمع بهذه المواصفات سيوجد العلم الخاص به، أي السوسيولوجيا أو علم الاجتماع.

إن مؤسسي السوسيولوجيا قد أبرزوا أن هذا العلم قد نشأ لوصف وتحليل المجتمع الجديد الذي خلقه حدثان تاريخيان كبيران: الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية. لقد بيّن رائدا هذا العلم، وهما سان سيمون وأوغست كونت أن السوسيولوجيا موضوعها المجتمع الجديد الذي خلقته الثورة الفرنسية التي قوّضت نظام المجتمع القديم، فأعقب ذلك حقبة عدم استقرار طويلة كان لا بد من إنهائها وإقرار نظام المجتمع الجديد، ولذلك يقول أوغست كونت إن علمه الجديد، السوسيولوجيا (وهو أول من استعمل هذا الاسم) هي علم المجتمع الجديد، لوصفه وتحليله وإعادة الاستقرار إليه. أما إيميل دور كايم، والذي أنشأ أول كرسي للسوسيولوجيا في السوربون، فقد اهتم بدراسة المجتمع الجديد الذي خلقته الثورة الصناعية.

لقد وُجد الشيء إذن، أي المجتمع الحديث، ثم وُضع العلم الخاص به، أي السوسيولوجيا، ولو أن هذا العلم سوف تتوسع موضوعاته ولن تقتصر على المجتمع الصناعي. أما ابن خلدون فقد توقف عند المفهوم، أي تصور المجتمع ككيان موضوعي، ووضع العلم الخاص به، علم العمران أو الاجتماع الإنساني حسب تعبيره. لكنه -وهنا المفارقة- رأى أن تطبيق علمه الجديد ليس على موضوعه الطبيعي، أي المجتمع، بل في تصحيح أخبار التاريخ وتدوينه تدويناً علمياًّ. ربما لأن المجتمع المدني المستقل القائم الذات لم يوجد بعد تاريخيّاً، ولذلك اتجه ابن خلدون بعلمه الجديد نحو التاريخ وليس نحو موضوعه الطبيعي وهو المجتمع.

لقد رجع الإصلاحيون النهضويون إلى أفكار خلدونية كما أسلفنا، لكنهم لم يستخلصوا من فكره العمراني ما هو أهمّ، وهي نتيجته المنطقية، أي التصور المدني لبناء نظام المجتمع والدولة.