الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الأنوار المظلمة وجدل التنوير
بقلم د. السيد ولد أباه المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

مفهوم “الأنوار المظلمة” (Dark Enlightenment)، مصطلح جديد، شائع في أيامنا، يعود إلى الفيلسوف البريطاني المثير للجدل “نيك لاند”. بدأ “لاند” حياته المهنية أستاذًا جامعيًا للفلسفة، قبل أن ينسحب من العالم الأكاديمي ويركز نشاطه على مواقع التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت، مدافعًا عن عقيدته الجديدة المناهضة للتنوير والحداثة، وقد أصبح لهذه العقيدة أتباع كثر في الولايات المتحدة الأمريكية على الخصوص وضمن العناصر البارزة في الدائرة المقربة من الرئيس “دونالد ترامب”.

ما يميز هذه النزعة الفكرية والأيديولوجية الجديدة هو الرفض الجذري لتركة التنوير، من قيم العقلانية الإنسانية، والمساواة، والديمقراطية والتقدم الاجتماعي.

في مقابل العقلانية الحرة، تتبنى نظرية “الأنوار المظلمة” مرجعية التقليد وسلطة العلم منظورًا إليه بصفته قولًا ملزمًا في ذاته وليس نتاج عملية تفكير ذاتي أو إقناع عمومي. وفي مقابل فكرة المساواة في جوانبها القانونية والحقوقية والاجتماعية، تتم إعادة الاعتبار لمعايير التفاوت الطبيعي بين البشر ومقاييس الاستحقاق التي لا تخضع لمدونة التماثل والكونية المشتركة. النموذج المطروح هنا هو نموذج المركبات التقنية القائمة على منطق النجاعة والربح الذي يتعارض في الصميم مع اعتبارات التساوي الحقوقي.

وفي مقابل الممارسة الديمقراطية القائمة على الحرية السياسية، وشرعية الانتخاب والمشاركة، يرى تيار الأنوار المظلمة أنها تقوض الاستقرار الاجتماعي، وتفتقر للمؤسسات الثابتة، وتؤدي إلى تكريس حكم الأفراد الفاسدين وغير المؤهلين لإدارة مصالح البشر.

وعلى عادة المفكرين المحافظين، المناوئين لحركة التاريخ الإيجابية، ينتقد هذا التيار مقولة التقدم الاجتماعي التي شكلت الركن الأساسي في فلسفات الأنوار الكلاسيكية، معتبرًا أنها تتأسس على نزعة أسطورية وهمية تمجد حركية التحول بغض النظر عن آثارها الفعلية.

ومع أن هذا الاتجاه لا يمكن الخلط بينه والنزعات اليمينية الشعبوية الصاعدة في كل الديمقراطيات الغربية، ولا الاتجاهات المحافظة التي تتغذى من الحركات الدينية الأصولية (مثل الإحيائية الإنجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية)، إلا أنها تشاركها في رفض القيم الليبرالية مع الاحتفاظ إجمالًا بآليات الانتخاب التي تعتبر مظهرًا للسيادة الشعبية المتحررة من كل سقف فكري أو إيديولوجي، كما تشاركها في الرجوع إلى النظم الدينية والاجتماعية ما قبل الحديثة.

من أهم أتباع “لاند” في تصوره للأنوار المظلمة “كورتيس يارفين”، وهو في الأصل مهندس معلوماتية إلكترونية وكاتب نشط في وسائل التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة، وقد عرف بنقده الراديكالي للديمقراطية الليبرالية ودفاعه عن التصور التقني التجاري للنظام السياسي بحيث تكون الدولة نمطًا من “الشركة الخصوصية” يديرها رب عمل قوي، يتمتع بسلطات غير مقيدة.

يرجع “لاند” و”يارفين” لكتابات الفيلسوف الألماني “كارل شميت” الذي نقد بشدة التقليد الديمقراطي الليبرالي من منظور فكرته للسياسة من حيث هي ممارسة سيادية إطلاقية وأمريّة لا يمكن تقييدها بمدونة حقوق الإنسان المجردة، ولا بآليات المنافسة والتمثيل الانتخابي التي لا يمكنها حسب رأيه توفير قاعدة شرعية ثابتة وصلبة للحكم السياسي.

إلا أن ما يميز تيار “الأنوار المظلمة” هو الانطلاق في هذه النقدية الجذرية لليبرالية من منظور “الأيديولوجيا التقنية الليبرالية” التي لها اليوم مدافعون أقوياء في الدائرة المقربة من الرئيس “دونالد ترامب”، والفكرة الأساسية التي تنطلق منها هي أن ظاهرة العولمة قد غيرت نوعيًا شكل الحكامة السياسية التي أصبحت تدار وفق معايير النجاعة والربح، بدل المثل والقيم التنويرية التي لا تناسب الوضع السياسي الراهن.

ومن هنا ندرك المفارقة التي تطبع تيار “الأنوار المظلمة” الذي بقدر ما يتشبث بالأفكار المحافظة التقليدية، يتبنى اليوتوبيّات التقنية الثورية التي ترفع شعار “ما بعد الإنسانية”.

المؤرخ الأمريكي “ديفيد بل” يطلق على ممثلي هذا الاتجاه “التقنيون القيصريّون”، وهم بالأساس من رجال المال والأعمال من قبيل “ديفيد ساكس” و”بيتر تيل” اللذين كانا ينشران في جامعة ستانفورد مجلة متمحورة حول نقد ما سمياه “أسطورة التنوع”. وقد التحقت عدة رموز من “سيلكون فالي” من نوع “يلون ماسك” بهذا التيار الذي يدعو إلى تشكيل ضرب من الأرستقراطية الجديدة التي تحكم دون الحاجة إلى المسطرة الديمقراطية.

الأمر هنا يتعلق بنمط من الداروينيين الجدد الذين يطمحون إلى تشكيل نخبة معزولة حاكمة، ليس لها صلة بالقاعدة الشعبية العريضة، رغم تبنيها خطاب التفوق العرقي الغربي والشعارات الحضارية الصافية في مواجهة “الغزو الثقافي” المهدد لكينونة الحضارة الغربية.
لا يمكن حصر هذه الاتجاهات المناوئة للتنوير في مسلك واحد، لكن مختلف روافدها تتفق في نبذ القيم الليبرالية ومدونة حقوق الإنسان الكونية، ومعايير الحرية والمساواة والتقدم التاريخي للبشرية.

الخطير هو أن هذه النزعة بدأت بالفعل تؤثر في مركز القرار في الولايات المتحدة، من خلال سياسات البحث العلمي الموجهة، والإجراءات المحاربة للتعددية الثقافية والحقوق الاجتماعية، والنظم المقيدة للفصل بين السلطات والضابطة للديمقراطية الليبرالية. وفي بقية الدول الغربية الكبرى، يلاحظ النشاط المتزايد لتيار الأنوار المظلمة الذي هو التهديد الحقيقي للنموذج الليبرالي الحداثي في مهاده الأصلي داخل المجتمعات الغربية.

لا نجد بوضوح حضورًا قويًا لتيار الأنوار المظلمة في السياق العربي، لكن فكرة العداء للتنوير لها جذورها المتينة في الخطاب الأيديولوجي الإسلاموي، الذي كثيرًا ما وقف بشدة ضد تركة الثورة الفرنسية واعتبرها من صنيعة “أعداء الدين”.

قرأنا لبعضهم الحديث عن “اليهود الثلاثة” الذين أفسدوا الفكر الغربي الحديث، وهو يعني هنا “ماركس” و”فرويد” و”دوركايم”، رغم أن الثلاثة لم تكن لهم أي نزعة دينية معروفة، كما أن فكرهم لا يمكن إرجاعه إلى خلفيات لاهوتية من أي نوع.

وحتى الكتاب الإصلاحيون الذين تشبثوا بقيم الليبرالية والتقدم من الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده إلى الحاضر، نادرًا ما استندوا إلى مقولة التنوير التي اعتبروا أنها تحمل شحنة راديكالية ضد التقليد، مع العلم أن حركية التنوير في الغرب الحديث توزعت إلى اتجاهات شتى بعضها راديكالي وبعضها مادي، والبعض الآخر أقرب إلى الإصلاح الديني والسياسي.