لا أحد يشكك في مركزية موضوع الهوية في الخطاب العربي المعاصر، المتمحور حول الانتماء القومي، ومقتضيات الوحدة والبناء الإقليمي المندمج.
إلا أن مفهوم الهوية نادرًا ما حظي بإعداد نظري رصين، بل اعتبر من المسلمات البديهية، التي لا تحتاج لتفكير أو بيان.
هذا الإهمال هو الذي أدى إلى العديد من الإشكاليات غير المحسومة، في مقدمتها التداخل بين دوائر الانتماء المختلفة وسياسات التكيف معها: الانتماءات الوطنية والقومية والدينية…
عندما طرح المفكر المصري الراحل سعد الدين إبراهيم في التسعينيات هذا الإشكال من منظور “حقوق الأقليات” في المجتمعات العربية شديدة التنوع، أثار جدلًا واسعًا ونقمة عارمة.
لكن الأحداث اللاحقة التي مرت بها العديد من الدول العربية في العقدين الأخيرين فرضت إعادة طرح سؤال الهوية مجددًا، بعد أن بلغت حالة الفتنة الأهلية مداها في الكثير من بلدان المنطقة.
ولا شك في أن كتابات الفيلسوف الغاني الأمريكي “كوامي أنتوني أبياه” في الموضوع تساعدنا في ضبط خيوط هذه الإشكالية المعقدة.
أصدر “أبياه” كتابًا هامًا بعنوان “الأكاذيب التي تربطنا: إعادة التفكير في الهوية” (The Lies That Bind: Rethinking Identity)،
بيّن فيه أن ما نعتبره هويات طبيعية هو في الحقيقة نتاج عمليات تركيبية، وبنائية وهمية تخدم سياسات ومصالح ظرفية. وقد وقف “أبياه” عند المرتكزات الخمسة للهوية التي هي: الهوية العقدية الدينية، والهوية القومية، والهوية العرقية، والهوية الاجتماعية والهوية الثقافية.
بخصوص الدين، يرى “أبياه” أن الهويات الدينية هي نتاج عملية بناء تاريخي وتأويلي، ليس الأساس فيها هو الوفاء للنص أو الحفاظ على المعتقدات، بل أنماط الحياة والسلوك التي تحدد مجالات التدين المتباينة والمتغيرة بحسب السياقات المجتمعية والزمنية، فالهوة واسعة بين المرجعية الدينية في ذاتها ودوائر الانتماء المستندة إليها، بما ينعكس في واقع التنوع الواسع داخل كل حقل ديني مهما كانت طبيعته.
وبخصوص الانتماء القومي، يرى “أبياه” أنه ليس مسلّمة بديهية، فمفهوم الأمة جديد حديث، يعود للعصور الراهنة، وما نعتبرها أممًا راسخة هي في الواقع نتاج هندسة سياسية لها زمنيتها المحددة وسياقها الحاف. لا تختلف في هذا الأمر الأمم الأوروبية العريقة والمجتمعات الأفرو آسيوية التي ما تزال فيها الكيانات الوطنية ضعيفة وهشة.
أما العرق، فليس سوى وهم زائف كرسته الأدبيات الاستعمارية الغربية لتبرير احتلال الشعوب الأخرى واستعبادها واستغلالها، فالهويات الأثنية من هذا المنظور هي نتاج مسارات تاريخية واجتماعية، وليس للون في ذاته دورٌ في تشكيلها.
أما الطبقات التي استأثرت بالأدبيات الماركسية التقليدية، فهي في الغالب أوهام ولا تقوم على تقسيم وظيفي شفاف للشغل، فالهويات الطبقية تنتقل عبر الوراثة ومؤسسات الدولة والنظام الاقتصادي القائم، وليست شفافة أو بديهية، كما أنها لا تعبر عن منطق الاستحقاق والحركية الذاتية للمجتمع الصناعي الحر.
ولئن كانت الهويات الثقافية تبدو صلبة ومستقرة، إلا أنها في الحقيقة مجرد وهم مصطنع، فالثقافة بطبيعتها سيالة مرنة، تخضع للتغيير الدائم والتحول المستمر، ومن ثمّ لا معنى لنقاء ثقافي أو تجانس فكري خارج التاريخ.
وما يخلص إليه “أبياه” هو أن الهويات بقدر ما هي ضرورية في الجانب الأخلاقي والتضامن الاجتماعي، يمكن أن تقود إلى العنف والإقصاء والانغلاق. ومن هنا ضرورة إخضاع الهويات للنقد المستمر، من أجل ضبط سياسات عمومية للتعايش المشترك والتفاعل الإيجابي بين البشر على مختلف الأصعدة.
أطروحة “أبياه” تستوقفنا عربيًا في مستويات ثلاثة أساسية هي:
- أولًا: إعادة بناء مفهوم الهوية القومية الذي عالجه سراة الفكر العروبي الحديث من زاويتي اللغة والتاريخ، أي الرصيد الثقافي المشترك، مستنتجين من هذا التأسيس نتيجتين مترابطتين هما: وجود هوية قومية طبيعية وبديهية، وضرورة التعبير السياسي عن هذه الهوية الثقافية من خلال الدولة الوحدوية الجامعة. ما أثبتته التجربة التاريخية المعاصرة هو أن مشروع الاندماج القومي ليس حصيلة ميكانيكية للوحدة الثقافية، كما أن هذه الوحدة لا تُترجم ضرورة في مشاريع سياسية منسجمة معها، بل إن الانتماء الثقافي قابل للتوظيف في سياقات متغايرة، وهو في داخله حامل لتوترات صدامية معقدة كثيرًا ما تنعكس في الواقع السياسي في لحظات التأزم والتحول السريع أو القسري.
- ثانيًا: الإقرار بضرورة التأقلم مع دوائر الهوية المتعددة في مجتمعات حرة ومتنوعة -كما هو الشأن في مجتمعاتنا الحالية- فلا عبرة بنظام الأولويات في الانتماء الهوياتي، ما دام حقًا من حقوق المواطنة في سياق ديمقراطي تعددي. لا تناقض بين مقتضيات الانتماء القومي (في أبعاده الشعورية، والثقافية العضوية) والانتماء الوطني في إطار الدولة الحديثة، والانتماء المجموعاتي سواء في الأطر الجماعية المشتركة (من ديانات، وطوائف، وأقوام وملل) أو في أطر الحقوق المدنية المعبرة عن الإرادة الفردية المستقلة.
- ثالثًا: لا يمكن اليوم طرح موضوع الهوية خارج نطاق الكونية الكوزموبوليتية التي خصص لها “أبياه” بعض أعماله الأساسية. ما تعنيه الرابطة الكوزموبوليتية أبعد من التصور الكانطي لحقوق التعامل السلمي بين الشعوب والأمم، بل هي تجسيد الفكرة الإنسانية الحديثة في محطتها المعولمة، وهي تعني أن الخصوصيات الثقافية والوطنية لا يمكن أن تكون مبررًا لانتهاك حقوق الإنسان الأساسية، ولا يمكن الاستناد إليها في سياسات انكفائية باسم حقوق الاختلاف الحضاري والتنوع القيمي.
في القرن الثامن عشر، طرح فلاسفة الأنوار الأوروبية مشروع الهوية القارية المشتركة (فولتير، لايبنتز، كانط …)، لكنهم اعتبروا أن هذا المشروع لا معنى له إلا إذا كان الوعي الأوروبي تعبيرًا عن الضمير الإنساني في مرتكزاته الأخلاقية الجوهرية. لقد وقفت الحركة الرومانسية في القرن الثامن عشر ضد هذا التوجه الإنساني الكوني في مرحلة تشكل الأمم الأوروبية الحديثة، فكانت القوة الدافعة لديناميكية الاستعمار والتوسع والحروب الإقليمية الطويلة. ما نحتاج إليه اليوم هو الرجوع لهذا الأفق الكوني الإنساني في مشروعنا القومي الذي ما يزال هدفًا مشروعًا وقابلًا للتحقق.