“زيف سترنهل” مؤرخ ومفكر فرنسي-إسرائيلي عرف بأعماله النقدية حول النزعة الصهيونية، وقد كتب كتابًا مهمًا بعنوان “النزعات المعادية للتنوير: تقليد يمتد من القرن الثامن عشر إلى الحرب الباردة” (صدرت طبعته الأولى بالفرنسية سنة 2006م).
ما يتميز به هذا الكتاب في ثرائه الفكري والتاريخي هو قوله إن عصر التنوير عرف اتجاهين متناوئين: عرف أحدهما بحركية التنوير التي دافعت عن القيم الإنسانية الكونية أي الفردية الذاتية والتصور المجرد للعقل، وركزت على منظومة الحقوق الطبيعية والقوانين الصادرة عن الإرادة المشتركة وليس التقليد الثقافي أو التاريخي الخصوصي. أبرز ممثلي هذا الاتجاه هم الفيلسوف الألماني “أمانويل كانط” في مقاربته الإنسانية القائمة على الاستقلالية الذاتية والرشد الأخلاقي، و”جان جاك روسو” في تصوره للشرعية السياسية المبنية على القانون الكلي والتعاقد الاجتماعي الحر. إلا أن هذه الحركية ولّدت مبكرًا أوجهًا من النقد الجذري من بينها عدم النظر إلى الفرد في سياقه المجتمعي والتاريخي، واعتباره ذرة قانونية واعية منفصمة عن الجماعة المنظمة المترابطة.
أما الاتجاه الآخر، فهو التنوير المضاد الذي ركز على مقومات الانتماء الثقافي والمجتمعي للأفراد وعلى نقد فكرة المساواة المجردة والعقل غير المتعين في نسق تأويلي، ودافع عن النظام، والسلطة والمقدس، وعن المرجعية التراثية الممتدة. ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه “جوناتن هردر” و”إدمون بورك” و”جوزف دي مستر”.
ما يلاحظه “سترنهل” هو أن تيار التنوير المضاد لا يرفض الحداثة في ذاتها، وإنما ينبذ الحداثة الليبرالية، ويستبدلها بحداثة مغايرة تتأسس على الهوية والشعور الجمعي والسلطة، بدلًا من منطق المساواة الفردية والكونية المجردة.
في هذا الباب، يوجه “سترنهل” النظر إلى مخاطر القومية غير الليبرالية التي وإن كانت تنطلق من الحق المشروع في الاندماج في المجموعة العضوية أو المعيارية التي ينتمي إليها الأفراد بالضرورة، إلا أنها قد تصبح أيديولوجيا شمولية معادية للديمقراطية التمثيلية ومنظومة الحقوق الكونية.
ليس المشكل في القول بأولوية الأمة على الأفراد ولا في التشبث بالمرجعية الثقافية للمجموعة، ولكن الخطر يبدأ عندما يتم نبذ قيم المساواة والعقلنة التي هي خط الحماية من الاستبداد والتعصب. ذلك ما حدث في ألمانيا وإيطاليا مع صعود الفاشية والنازية، وهما نزعتان تلتقيان في معاداة الليبرالية والتنوير من منظور قومي راديكالي.
ليس هذا التيار القومي المتعصب يمينيًا ولا يساريًا، بل هو تعبير عن أيديولوجيا جديدة تلتقي فيها فكرة الإرادة الجماعية في نسختيها اليمينية واليسارية.
بدلًا من النزعة الوطنية المدنية التي بلورتها فلسفات الأنوار الحديثة، يتبنى هذا التيار مقولة الأمة العضوية التي تحتوي الفرد وتشكل وعيه الذاتي، ومن ثم يتم تبرير التضحية بالحرية الفردية لصالح المجموعة المندمجة، وبدلًا من معيار المساواة الاجتماعية الذي هو محور نظريات العدالة الحديثة، يذهب هذا التيار إلى القول بالانتماء التمييزي والتراتبية الطبيعية بما يلغي عمليًا نظام الحقوق والحريات، ومذهب الفصل المؤسسي بين السلطات.
في النزعة القومية المعادية للتنوير والليبرالية، تصبح الحقوق مشروطة ومقيدة، وتغدو كل معارضة سياسية تمردًا غير مشروع وخيانة للأمة، ويتم تهميش وإلغاء الأجانب والأقليات بما ينتج عنه تحطيم دولة القانون، وتبرير استخدام العنف السياسي وتوطيد التحكم الفردي في السلطة الحاكمة.
ومع ذلك، لا يرفض “سترنهل” كليًا الفكرة القومية، لكنه يحافظ على نسختها الليبرالية التنويرية وينبذ انحرافاتها الكليانية. القومية الليبرالية ترى في الأمة مجموعة سياسية مدنية تحكمها منظومة حقوق وحريات كونية، وتتجسد فيها وشائج المواطنة المتساوية ولا ترفض المنظور الكوني ولا الديمقراطية التعددية، رغم تشبثها بقيم الهوية الثقافية والانتماء المجتمعي. أما القومية غير الليبرالية، فتتسم برفض التعددية، والحرية الفردية والمساواة الاجتماعية.
لا تختلف مقاربة “سترنهل” عن نظرية الفيلسوف البريطاني “إشعياء برلين” في كتابه “تصوران للحرية” (صدر سنة 1958م)، حيث يميز بين “الحرية السلبية” التي هي القيمة المحورية في التقليد الليبرالي وينتج عنها تأكيد الحقوق المدنية والتعددية القيمية، و”الحرية الإيجابية” التي تتعلق بمرجعية الانتماء، والهوية الجماعية والاستقلالية القومية لكنها يمكن أن تفضي إلى الانغلاق، والتسلطية والنزعة الأبوية المستبدة.
يمكن أن تكون القومية دعامة للتحرر والانعتاق في دفاعها عن استقلالية الأمة وهويتها الثقافية، ولكنها يمكن أن تتحول إلى خطر حقيقي عندما تذهب بعيدًا في تقديس الهوية الجماعية، وتحطيم الإرادة الفردية ونفي التعددية السياسية والاجتماعية.
الفرق هنا واضح بين حرية إجرائية صورية تقتضيها اعتبارات المواطنة والحقوق الفردية، وحرية جوهرية تنغرس في الأبعاد الأخلاقية والرمزية وتهدف إلى تحقيق غايات معيارية ملموسة.
إلا أن تراث التنوير الحديث يفرض علينا الجمع بين التوجهين: الليبرالي الفردي والمجموعاتي الثقافي، بدلًا من اعتبارهما متعارضين، متضادين. فلا شك في أن الكونية الصورية ليست سوى وهم ما دام الإنسان لا يتحقق وعيه ولا تتشكل إرادته إلا في إطار تقليد اجتماعي ينتمي إليه بالضرورة، لكن الميزة الكبرى للحداثة هي تأمين قدرة العقل الإنساني على التجاوز، والنقد والتجدد بتغيير محيطه الأصلي وحتى الانفصال الطوعي عنه. كما أن قيم الحرية، والتعددية والمساواة لم تعد مجرد خيارات أيديولوجية ظرفية، بل هي مقومات مصير الإنسان الحديث كما أنها رصيد عصور الأنوار الذي لا يمكن التملص منه.
في فكرنا العربي المعاصر، ساد النزوع القومي غير الليبرالي أي التنوير المضاد الذي يرفض قيم الحرية والتعددية، ويمنح الأولوية للهوية بمفهومها العضوي الميثولوجي على التصور المدني للأمة بصفتها رابطة مواطنة متساوية.
في العقود الأخيرة، جرت محاولات مهمة لبناء تقليد القومية الليبرالية في الساحة العربية، بتبيئة مقولات الديمقراطية والحقوق الكونية في الحياة السياسية العربية، لكن هذه المحاولات لم تفض إلى نتائج نوعية. وهكذا، فشلت مشاريع التنوير التحديثي من داخل المنظور القومي العربي، في الوقت الذي انهارت التجارب النازية والفاشية التي تلبست زورًا بالشعارات العروبية الوحدوية.