“صمويل بيفندورف” مؤرخ وفيلسوف وقانوني ألماني، من أهم مفكري عصر النهضة الأوروبية، كان له أوسع التأثير في حركية ما سمي بالقانون الطبيعي التي بلورها اللاهوتي والقانوني الهولندي “هيغو غروتيوس” (خصوصًا في كتابه قانون الحرب والسلم). بيد أن “بيفندورف” أخرج نظرية القانون الطبيعي من الاعتبارات اللاهوتية، في إطار المفهوم السيادي للدولة الوطنية الناشئة بعد معاهدة وستفاليا (1648).
لقد تناول “بيفندورف” نظرية القانون الطبيعي وفق ثلاثة مرتكزات أساسية، هي:
- الطابع الاجتماعي للإنسان، من منظور أخلاقي معياري يعتبر أن مصدر القوانين الطبيعية ليس الكنيسة أو التقاليد التاريخية، وإنما طبيعة الإنسان نفسه من حيث كونه يحتاج إلى الرابطة الإنسانية المشتركة لتحقق ملكاته الذاتية ومصالحه الحيوية. القانون الطبيعي هو بالنسبة له مجموعة القواعد السلوكية الضرورية عقليًا للحفاظ على حياة الأفراد وضمان تعايشهم السلمي. فمن دون الاجتماع المدني القائم على القانون الطبيعي، يظل الإنسان ضعيفًا وفقيرًا ومحتاجًا إلى الغير. وهكذا يكون الطابع الاجتماعي هو القاعدة الأساسية للقانون الطبيعي الهادف في عمقه إلى تحقيق الانسجام والتناسق بين أعضاء المجتمع. من هنا، يختلف “بيفندورف” عن رأي “أرسطو” الذي كان يقول إن الإنسان مدني بالطبع، وعن موقف “هوبز” الذي يرى أنه كائن أناني مغلق على نفسه، فبالنسبة له الحضن الاجتماعي ضرورة عقلية، وليس مجرد غريزة أو اختيار مصلحي.
- التصور التعاقدي للدولة من حيث كونها تنشأ من ميثاق توافقي بين الأفراد من أجل تحقيق السلم المشترك. فالطابع الاجتماعي العقلاني لا يكفي لضمان حالة الانسجام والأمن، ومن ثم الحاجة الضرورية إلى عقد مدني يكون هو قاعدة المجموعة السياسية. في هذا السياق، يفرق “بيفندورف” بين لحظتين متمايزتين في مسار التعاقد:
- اللحظة الاتحادية التي تعني قيام جسم اجتماعي موحد هو ما نطلق عليه عادة مقولة “الشعب”، بصفته تجسيدًا للرابطة المدنية الجماعية،
- لحظة الخضوع التي تنشأ فيها حكومة سيادية يمتثل لها المواطنون طواعية، ويعهد إليها بتطبيق النظم والقوانين العمومية. وإذا كان “هوبز” اعتبر أن الخضوع للسلطة السيادية ضروري لتحقيق غائية السلم الجماعي والأمن المشترك، فإن “بيفندورف” اعتبر أن الخضوع السيادي لا يلغي القانون الطبيعي الذي استبدله “هوبز” بالقانون المدني الذي تضعه الدولة بعد اكتمال العقد الاجتماعي.
- الفصل بين السلطة المدنية والدين، وبين القانون والنص المقدس. بالنسبة له، ثمة فرق جوهري بين السياسة والدين من حيث المرجعية والوظيفة. الدولة تقوم على القانون الطبيعي وعلى العقل والمصلحة الإنسانية المشتركة، بينما يهدف الدين إلى تحقيق خلاص الأرواح وتوجيه الأنفس نحو الإيمان الصحيح. غاية الدولة الوحيدة هي تحقيق الأمن والسلم والنظام المدني، بينما يتجلى دور الدين في تحقيق الفضيلة الأخلاقية والسمو الروحي. ولذا، لا بد من الحفاظ على الانفصال التكاملي بين الكنيسة والدولة دون أن تهيمن أي منهما على الأخرى. على الدولة أن تحافظ على التسامح الديني شرطًا للسلم الأهلي، كما يجب عليها ضمان حرية الوعي والضمير، دون أن تتدخل في شؤون السلطة الدينية المهمة في الجوانب الأخلاقية والروحية.
في كتابه “في العلاقة بين الديانة المسيحية والحياة المدنية”، الصادر سنة 1687 ( De habitu religionis christianae ad vitam civilem)، يبحث “بيفندروف” عن أنجع الطرق لخروج المجتمعات الأوروبية من الصراعات الدينية التي مزقتها طيلة عدة قرون. في هذا الكتاب، يبين المؤلف أنه من الممكن التوفيق دون إشكال بين المسيحية والحياة المدنية، على ألا يهيمن الدين على الدولة ولا تقضي الدولة على الدين. المطلوب هو الفصل المؤسسي بين الشؤون المدنية البشرية القائمة على مطلب السلم الأهلي، والنظام العمومي والحياة الدينية التي تتعلق بالضمير والخلاص، أي بالاعتبارات الذاتية للاعتقاد. ومن أجل الحفاظ على الأمن الداخلي والسلم الجماعي، على الدولة أن تلتزم بمسافة واحدة من مختلف الديانات في إطار متسامح ودون إكراه أو عنف قسري. فليس التسامح علامة على الضعف، بل هو من مقتضيات القانون الطبيعي والترابطية الاجتماعية. إلا أن “بيفندروف” يرى في الوقت نفسه أن الدين ضروري ومفيد للحياة الاجتماعية، لكونه يوطد الأخلاق، واحترام القوانين والسلم والتراحم، بيد أنه يجب أن يخضع للعقل والقانون الطبيعي.
لا يكاد الفكر العربي الحديث يعرف شيئًا عن فكر وفلسفة “بيفندورف” الذي طمسته أدبيات العقد الاجتماعي، خصوصًا نظرية “جان جاك روسو” التي عرفها العرب مبكرًا، منذ رفاعة الطهطاوي.
ومع أن “بيفندورف” أثر بقوة في نظريات “جون لوك” و”روسو”، وخلص أطروحة هوبز من طباعها الإطلاقي الاستبدادي بالحفاظ على محورية القانون الطبيعي في أسبقيته على القانون المدني، إلا أن فكره السياسي ظل مجهولًا إلى حد بعيد في الساحة العربية.
وبالمقارنة مع “ماكيافيلي” و”جان بودين” في تأسيسهما لنظرية سيادة الدولة، نلاحظ أن “بيفندورف” وإن سار على منوالهما في إناطة السلطات المطلقة للدولة الوطنية من حيث هي التعبير عن الجسم الاجتماعي الكلي، إلا أنه تميز بإخراج القانون من الطابع السياسي إلى المستوى الأخلاقي والعقلاني المرجعي، بما يضع قيودًا صارمة على سلطة السيادة الوطنية.
عندما دخلت نظرية العقد الاجتماعي في الفكر العربي، اختزلت في البداية في فكرة المصلحة التعاونية الضرورية التي لا تقتضي إلزامًا إعادة بناء المنظور السياسي والمدني للدولة. أو بعبارة أخرى، كان المقصود لدى الجيل الأول من الإصلاحيين من أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي هو مصالحة الدولة مع المجتمع، أي منح السلطة القائمة شرعية القبول والتوافق الطوعي في إطار إصلاح مؤسسي شامل لهياكلها الإدارية والعسكرية. ما غاب في هذه الرؤية هو إشكالية تأسيس الدولة على العقل والقانون الطبيعي، التي تقترن في نهاية المطاف بفكرة سيادية الدولة في مرجعيتها القانونية والمدنية.
من هنا، نستنتج أن فلسفة “بيفندورف” ظلت غائبة أو هامشية في الفكر الإصلاحي والنهضوي العربي.