الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

تحولات المثقف في العصر الحاضر
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

أعلن في باريس قبل أيام عن رحيل المؤرخ والناشر الفرنسي البارز “بيار نورا” عن عمر تجاوز التسعين عامًا، قضاها في مركز الحياة الثقافية والفكرية في بلاده.
كان الراحل يقول إن الساحة الثقافية في الغرب الليبرالي انتقلت من نموذج المثقف النقدي الموروث عن عصر الأنوار والثورة، إلى المثقف المتخصص الذي يمارس دوره في حقل العلوم الإنسانية بدلًا من الأدب والفلسفة، وهما من قبل محور اشتغال المثقف الملتزم والمناضل الذي انحسر دوره وزخمه.

الواقع أننا يمكن أن نميز بين أربعة نماذج مختلفة للمثقف (أي الشخصية التي تمارس مسؤولية ريادية وتوجيهية من خلال النشاط الثقافي) عرفها تاريخ الفكر سابقًا.

هناك أولًا صورة الفيلسوف المتوحد المتأمل في السياق القديم والوسيط، أي في العصر اليوناني والعهد اللاتيني الكلاسيكي، وهو نموذج يدعي احتكار المعرفة البرهانية ويعتبر أنه المؤهل لوضع قواعد الحقيقة والعدل والخير. كان للفلاسفة اليونان خطابان أو صياغتان لنفس الفكر: أحدهما موجه للعموم وفق القيم والمعايير السائدة، وثانيهما للخاصة وهو من “المضنون به على غير أهله” يترجم المعنى الحقيقي لمراد ومقصد الفيلسوف. بهذا المعنى، يقال إن كتابات أفلاطون التي حفظها لنا التاريخ تندرج عمومها في النصوص العمومية ولذلك تنضح بالأساطير والحكايات الشعبية، في حين أن كتابات أرسطو التي بحوزتنا موجهة للخاصة من طلبته ومريديه ولذا اتسمت بالطابع البرهاني العقلاني.

في كتابه الهام “الاضطهاد وفن الكتابة”، يوضح الفيلسوف الألماني الأمريكي “ليو شتراوس” أن فلاسفة العصور الوسطى قد اختاروا اعتماد الأسلوب الإيحائي المجازي في التعبير عن المضامين الفلسفية، خوفًا من نقمة العامة والمؤسسة الرسمية.

وعلى العموم، يمكن القول إن الفيلسوف بالمعنى القديم والوسيط كان بالأساس حكيمًا متوحدًا يكتشف الحقائق الوجودية والإنسانية بمحض التأمل والتفكير، ويرى أنه القادر بفضل ملكاته العقلية على حمل الناس على مذهبه “الصحيح”. من أمثلة هذا النموذج في تراثنا الفارابي الذي اعتبر أن الفيلسوف هو وحده المؤهل لوضع شروط السعادة داخل مدينة فاضلة تتطابق مع نظام الوجود والحقيقة.

مع القرن الثامن عشر، عرفت أوروبا الحديثة نموذجًا آخر من المثقف هو المفكر الذي يتميز بما سماه كانط “الاستخدام العمومي للعقل”، وتعني هذه العبارة نقل الأفكار من سماء التجريد والبرهان الصوري إلى العالم المعيش والتجربة الإنسانية الحية، بما ينجر عنه انفتاح الفلسفة على النسق الاجتماعي الواسع. لقد بلغ هذا التوجه أوجه في المنظور الماركسي للمثقف الملتزم أو “العضوي”، وأصبح هدف الفلسفة حسب عبارة ماركس الشهيرة “تغيير العالم بدل الاكتفاء بتفسيره”.

ولا شك في أن هذا النموذج هو الذي هيمن على الساحة الثقافية طويلًا في كل أنحاء العالم، بما فيها البلاد العربية، وهو نموذج ارتبط بمثال الثورة وإدارة الوعي الطبقي وتنوير المجتمع، وعكسته المنظومات الأيديولوجية الكبرى التي عرفتها منطقتنا وبقية العالم في النصف الثاني من القرن العشرين.

في العقود الأخيرة من القرن الماضي، انهار هذا النموذج، الذي كان من آخر رموزه الفيلسوف الوجودي الفرنسي “جان بول سارتر”، وعوضه ما سماه “ميشال فوكو” بالمثقف الخصوصي، وهو وجه معرفي لا يطمح إلى تقديم رؤية نظرية للعالم ولا تغيير الواقع، وإنما يكتفي بمعالجة مواضيع متخصصة في الحقل البحثي المحدد.

ومع أن فوكو نفسه وجيله من الفلاسفة كانوا ملتزمين بقضايا عصرهم، منخرطين في صراعات مجتمعهم، إلا أنهم رفضوا الانطلاق من مرجعية نظرية أو عقدية كبرى. كان فوكو يقول عن نفسه انه يمارس مواقفه الملتزمة على طريقة المحارب الذي لا يهمه سؤال معيارية فعله، بل يؤدي دوره الاجتماعي وفق حدسه ومسؤوليات زمنه.

مع نهاية الحرب الباردة في آخر سنوات القرن الماضي، انحسرت الأيديولوجيات وانتهى معها نموذج المثقف العضوي بلغة “غرامشي”، سواء أتعلق الأمر باليساري الثوري أم بداعية التحرر حامل النزعة ثالثية العالم في الجنوب.

لم تنته نضالات المثقف وإن تغيرت دوائرها وتبدلت أدواتها. في الولايات المتحدة الأمريكية، أفرزت حركة مقاومة التمييز العنصري موجة جديدة من التعبئة الاحتجاجية عرفت على نطاق واسع بحركة اليقظة (woke) التي تمحورت في الحقل البحثي العلمي وانتقلت إلى معركة الشارع بعد مقتل الإفريقي الأسود “جورج فلويد” في أيار/مايو 2020.
وفي عدة مدن أوروبية كبرى، أعادت الحركة النقابية الروح للنشاط السياسي الملتزم، في إطار النقاش المتجدد حول الشعبوية اليسارية الرافضة لأفكار الإجماع السياسي والتوافق المدني النافي لمقتضيات التعددية والتنوع، التي هي مقياس صحة المجتمعات الديمقراطية.

إلا أن المثقف في هذا السياق، لا يصدر عن منطلقات إيديولوجية أو فكرية نسقية، بل يكتفي بالاندماج في الحركة الاجتماعية والتفكير بعديًا في منطقها ومآلاتها، دون ادعاء القدرة على توجيهها وقيادتها.

كتب مرة رجيس دوبريه ساخرًا أن صورة المثقف العضوي الملتزم غابت كليًا في المجتمع الغربي، واستبدلت بنماذج هجينة من قبيل خبير الاتصال والقاضي الملتبس والأديب الراوية، مرجعًا هذه النهاية المأساوية إلى نضوب أفق التاريخ الذي كان لمدة قرون المرجعية النظرية والمعيارية للفاعل الثقافي المؤثر في مجتمعه ووطنه.

عندما ينتفي التاريخ، يبقى الحاضر الممتد الطويل الذي لا يمكن أن ينتج حلمًا مثاليًا ولا دعوة تغييرية، ولا يمكن أن يبدع خيارًا بطوليًا يحمل الإنسان على التضحية والموت.

تلك مأساة المثقف في العصر الحاضر، رغم اتساع الثقافة وتزايد مسالك المعرفة والعلم.