الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

ممرات إنسانية، شبكات اتجار بالبشر.. أم استراتيجية أوسع من التطهير العرقي؟

مشاركة

بقلم: نرمين وليد حسين، ماتيلدا بيكارازي، جيوفانا مارياني

ثمة فجوة بارزة ملحوظة في نظام الحماية العالمي في غزة، التي دمرها العدوان العسكري الإسرائيلي المستمر، إذ في مقدور الجماعات الخاصة العمل بسهولة تحت راية المساعدات الإنسانية الزائفة، مستغلة الأشخاص الذين لا يملكون خيارات آمنة. إلى جانب العمليات الإنسانية المشروعة القليلة في غزة، فقد ظهرت مؤخرًا عملية إخلاء مثيرة للجدل سببت مخاوف مثيرة للقلق. وفي هذا الخصوص، تخضع منظمة غامضة، تطلق على نفسها اسم المجد أوروبا، حاليًا لتحقيق دولي، وسط شكوك مفادها استغلالها الفلسطينيين المحتجزين في ظروف الحصار، واستفادتها من يأسهم. ولفتت هذه العملية انتباه العالم بعد أن هبطت طائرة مستأجرة تقل 153 فلسطينيًا على نحو غير متوقع في جوهانسبرغ في الثالث عشر من تشرين الثاني/نوفمبر، دون أن يحمل هؤلاء الأشخاص وثائق مناسبة. أثار هذا الحادث مخاوف بين السلطات والمحللين، ما أدى إلى خشيتهم من أن يكون جزءًا من مخطط خفي للاتجار بالبشر أو، الأسوأ من ذلك، جزءًا من استراتيجية أوسع للتطهير العرقي.

وعلى الرغم من أن هذه المنظمة تُقدّم نفسها باعتبارها منظمة إنسانية غير حكومية، إلا أنها تبدو واجهةً لا أكثر. صحيحٌ أن خطابها يتحدث عن التضامن والالتزام بحماية المدنيين في مناطق النزاع، إلا أن عدة  صحفيين أفارقة وعرب قد كشفوا عن مجموعة تناقضات في هذا الخطاب، مثل غياب مكاتبها العملياتية وعرض صور زائفة لموظفيها أنتجتها تقنيات الذكاء الاصطناعي، كما ليس ثمة سجل موثوق لمشاريعها السابقة أو وثائق عامة تتعلق بأنشطتها المُنفذة على مر السنوات. 

كذلك، كشفت التحقيقات الإضافية في مسارات الإجلاء عن تفاصيل تثير مزيدًا من القلق، إذ تشير الشهادات إلى مسار يبدأ في غزة، ويمر عبر معبر كرم أبو سالم، ويستمر تحت السيطرة الإسرائيلية إلى مطار رامون، جنوب إيلات، ومن ثم تغادر الرحلات الجوية من مطار يسيطر عليه الجيش الإسرائيلي وتهبط في نيروبي، كينيا، قبل التوجه إلى جنوب إفريقيا. كما أفاد العديد من الركاب بجهلهم بوجهتهم النهائية حتى نزولهم من الطائرة. تشير التقارير الواردة من قناة الجزيرة، ووكالة أسوشيتد برس ووسائل الإعلام الجنوب أفريقية، إلى فرض رسوم تتراوح بين 1500 و5000 دولار على الأفراد. ونُقل الركاب عبر نقاط التفتيش الإسرائيلية، إلى جانب نقلهم جوًا من دون أوراق رسمية، واحتجازهم مدة ساعات بعيدًا عن وطنهم، مع منع العديد من الركاب في البداية من الدخول وإبقائهم على متن الطائرة لأكثر من عشر ساعات لأن عددًا منهم لم يكن حاصلًا على أختام المغادرة المعتادة وتفاصيل السفر الأخرى. بعد تدخل السلطات في جنوب إفريقيا، سُمح لـ 130 شخصًا بالدخول إلى البلد لأسباب إنسانية، بينما واصل 23 شخصًا رحلتهم إلى وجهات أخرى. وصف رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، وصولَ الفلسطينيين بأنه “غامض”، مشيدًا بتعاطف الحكومة، وأعلن عن مراجعة رسمية ستخضع لها هذه القضية، محذرًا من عدم السماح برحلات أخرى مثل هذه. وقد لعبت جنوب أفريقيا دورًا رائدًا في رفع دعوى الإبادة الجماعية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وقارنت بوضوح بين سياسات إسرائيل ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وإدراكًا منها للآثار السلبية المستمرة للفصل العنصري في ماضيها، تُشدد حكومة جنوب أفريقيا على ضرورة إدارة أي وصول مستقبلي إلى أراضيها عبر آليات شفافة، ويفضل أن تشمل هذه الآليات المنظمات الدولية ووساطة السلطات الفلسطينية.

كثيرًا ما استكشفت إسرائيل خططًا لنقل سكان غزة (بما في ذلك وضع مقترحات سابقة وإجراء محادثات مع دول أفريقية). وفي الواقع، ومن أجل مغادرة غزة، يجب على الفلسطينيين المرور عبر نقاط التفتيش الإسرائيلية، والضوابط والتصاريح، ما يجعل الادعاء القائل بعدم تدخل دولة الاحتلال الإسرائيلي أمرًا مستبعدًا للغاية. من المرجح أن هذه الطائرة كانت جزءًا من مسار خروج من القطاع خاضع للمراقبة، بما يتجاوز قنوات الهجرة المعتادة. وبتنسيق صادر عن دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتوجيهها المجموعة، ومنحها التصاريح الأمنية، تبدو هذه العملية أقرب إلى مخطط نقل قسري، منها إلى عمل خيري، بما يشكل في المجموع نمطًا غير قانوني يرمي إلى تطهير غزة من الفلسطينيين وتسريع عملية التطهير العرقي.

وفقًا للقانون الإنساني، تُبدي اتفاقية جنيف الرابعة شكوكًا عميقة بشأن إخلاء المدنيين. إن هذه المعضلة واضحة في هذا الصدد، فمن جهة، يحتفظ الفلسطينيون من غزة بحق المغادرة نظرًا لظروف الحياة غير الإنسانية في القطاع، ومن جهة أخرى، ينبغي منع القوة المحتلة التي ساهمت في خلق تلك الظروف من استغلال معاناة السكان الفلسطينيين لتسهيل مخططها الاستعماري. ولكن، بعد أن لم يبقَ لغزة سوى الأنقاض، هل ثمة خيارات حقيقية أمام الفلسطينيين من حيث المغادرة الطوعية؟ 

كان قرار ركوب هذه الرحلة ثقيلًا على الفلسطينيين، وذلك لعلمهم باحتمال كونها رحلة ذهاب بلا عودة، ما حوّل محاولة البقاء على قيد الحياة هذه إلى منفى دائم. لم يجرِ ترحيل هؤلاء الأشخاص صراحة، بل أُجبروا بطريقة ما على حزم أمتعتهم، وسُمح لهم بالدخول عن طريق تأشيرات مؤقتة مدتها 90 يومًا في بلد غريب عليهم دون أي ضمانات مستقبلية. أصبح الفلسطينيون في جنوب إفريقيا رمزًا للنمط الاستعماري الإسرائيلي الذي يسعى للتخلص منهم نهائيًا، وهنا قد يجري تجاوز الخط الفاصل بين التسهيل القانوني والترحيل البنّاء. وما التصاريح، ونقاط التفتيش، والمناطق العازلة، والممرات الإنسانية، وعمليات الإخلاء الانتقائية، وعمليات النقل المشبوهة للسكان من خلال كيانات خاصة سوى أدوات لمراقبة الحدود وإدارة السكان. وبهذا المعنى، تُعدّ الطائرة القادمة من غزة نافذة على الآلية التي تعمل بها صور الاستعمار المعاصرة: لا من خلال الاستيطان فقط، ولكن بصنع ظروف غير صالحة للعيش، واستغلال الهروب، وتشتيت شعب عبر الحدود. ويعتمد مدى ما إذا كان التاريخ سيذكر هذه الرحلة باعتبارها حلقة إنقاذ أو خطوة في عملية طويلة من التطهير العرقي على ذلك الخيار الذي سيتخذه المجتمع الدولي بشأن مواجهة المشروع الأعمق الذي يكمن وراء هذه القصة.

في غضون ذلك، وافق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يوم الإثنين رسميًا على قرار يستند إلى الخطة الأمريكية المكونة من عشرين نقطة بشأن غزة، بأغلبية 13 صوتًا، مع امتناع روسيا والصين عن التصويت. وتبدو الخطة، التي هي في ظاهرها مجرد إطار تمهيدي أكثر منها استراتيجية مفصلة، ​​بمثابة إنشاء قوة دولية لتثبيت الاستقرار، تُكلَّف بإدارة الأمن، وتوزيع المساعدات الإنسانية، وإعادة إعمار غزة. كما أن مجرد الإشارة الموجزة إلى “مسار نحو تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية” يعد بمثابة تنازل، بما يتجاوز كونه مسارًا ملموسًا لتحقيق هذا الهدف. وقد رفض الكثير، وخاصة الفلسطينيين، القرار باعتباره “آلية وصاية دولية” استعمارية جديدة تُفرض على غزة والفلسطينيين. وبإغفال المساءلة، واستبعاد الفلسطينيين، وحرمانهم من المشاركة وحقهم في تقرير المصير من خلال إرساء رقابة دولية جديدة، يفشل هذا القرار في تلبية المطالب السياسية والإنسانية.

علاوة على ذلك، ورغم التعهد باستمرار زخم وقف إطلاق النار، تتواصل الانتهاكات على الأرض، مع استمرار تردي الوضع الإنساني. إذ أفاد العاملون في المجال الإنساني أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تواصل تقييد وصول الصحفيين إلى غزة، وتسمح بتوزيع المساعدات -مثل الخيام والإمدادات الطبية- ببطء شديد، الأمر الذي يتناقض مع الالتزامات السابقة. أفادت الأمم المتحدة أن أكثر من 80% من المباني في قطاع غزة قد تضررت أو دمرت، مع ارتفاع النسبة إلى 92% في مدينة غزة نفسها. كما يحتاج حوالي 1.5 مليون شخص إلى مساعدة طارئة لتوفير المأوى، مع افتقارهم إلى الأساسيات اللازمة لاجتياز فصل الشتاء. على الحدود اللبنانية، شنت إسرائيل غارة جوية على مخيم عين الحلوة للاجئين في صيدا، مستهدفةً منطقة مكتظة بالسكان للاجئين، وقُتل في هذا الهجوم المروع 13 فلسطينيًا وجُرح العشرات، ما يمثل تصعيدًا خطيرًا للتوتر وانتهاكًا صارخًا لاتفاق وقف إطلاق النار الذي جرى التوصل إليه في تشرين الثاني/نوفمبر 2024.

وبينما يعاني المدنيون الفلسطينيون من القصف والتشريد والجوع، ويجد بعضهم نفسه مجبرًا على الاعتماد على جهات فاعلة عديمة الضمير تستغل معاناتهم الإنسانية، فإننا ندعو إلى آليات شفافة، ومسؤولة وإنسانية حقيقية لحماية الفلسطينيين، ونطالب بحقهم في المشاركة في أي محادثات سلام، أو إعادة إعمار أو عملية تقرير مصير، كما نناضل من أجل أن ينالوا حقوقهم غير القابلة للتصرف، بما يشمل العيش بكرامة وحرية على أرضهم.