الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الأمة والوطن: الانتماء القومي والمواطنة
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

“فرناندو سافاتير” فيلسوف إسباني مرموق، خصص مجموعة من الأعمال الفكرية الهامة للتحديات التي تواجه الأمة الإسبانية في سياق مطالب الحركات القومية الانفصالية في إقليمي كاتالونيا والباسك.
ومن المعروف أن الدولة الإسبانية متعددة البناء القومي واللغوي، وقد عرفت في عدة مراحل من تاريخها حروبًا أهلية طاحنة، ولا تزال تنشط فيها حركات متمردة انفصالية، تشكل راهنًا خطرًا حقيقيًا على استمرار الكيان الوطني القائم.

في كتابه “السياسي والمارق” (El politico y el hereje)، يميز “سافاتير” بين رجل السياسة الذي يدير السلطة ويبحث عن الاستقرار والأمن، والمتمرد الذي يتحدى الوضع القائم من منطلق الحقيقة أو حرية الوعي. في الديمقراطية الحديثة، يتميز المواطن بأنه يجمع بين مقتضيات الشرعية الدستورية والقانونية من جهة، والنزوع النقدي الحر من جهة أخرى. فهو وإن كان يلتزم بالعقد الوطني العمومي وبالولاء للدولة، إلا أنه يتمتع بحقوق الاستقلالية والكرامة الفردية والتميز التي عادة ما تعتبرها الأنظمة القمعية نوعًا من الانشقاق المرفوض وغير المشروع. المواطن الحديث يختلف عن الفرد الخاضع من حيث كونه بأبى الرأي المهيمن والحقيقة الأحادية والسلطة المطلقة، ويناضل من أجل حقوقه السياسية والقانونية.

إلا أن “سافاتير” يرفض في الوقت ذاته النزعات الانشقاقية المستندة إلى الخصوصيات العرقية أو الدينية، معتبرًا أنها تصدر عن نفس المنطق المتعصب المنغلق، لكونها تختزل الإنسان في أصوله الجامدة وتضحي بذاتية الإنسان الحرة لصالح مجموعة ما أو عقيدة معينة.

فبقدر ما أنه من غير المقبول اختزال السياسة في تسيير التوافق الجماعي منعًا لأي حق اختلافي، فإن التصور المجموعاتي أو العضوي للفعل السياسي ينافي مبدأ الديمقراطية والتعددية الفكرية والمجتمعية.

في كتابه الآخر “قيمة المواطنة”، يطرح “سافاتير” فكرة المواطنة من منظور فلسفي عميق، مبينًا أن هذه الفكرة ليست مجرد انتماء شكلي لأمة أو كيان سياسي، وإنما تتضمن المشاركة المسؤولة في المجال العمومي، أي التمتع بإرادة فاعلة للعيش المشترك ضمن منظومة مدنية مندمجة قانونيًا وإجرائيًا.

الأساس إذن في المواطنة في دلالتها الحديثة ليس مقومات الانتماء القبلي من اشتراك في الخصائص العامة الموروثة، بما قد يتجاوز الأطر الوطنية ذاتها، وإنما الأساس الحقيقي هو إرادة العيش المشترك والاختيار الحر الذي يدفع للولاء للأمة من حيث هي حضن انتماء إرادي غير مفروض.

إنه يتبنى من هذا المنظور فكرة “المواطنة الدستورية” وفق تصور الفيلسوف الألماني “هابرماس”، ويعني بها القومية الإسبانية المؤسسة على الديمقراطية التعددية وحقوق الإنسان، مع رفض النزعات الخصوصية الانفصالية المستندة للمطالب الهوياتية أو التاريخية.

في الإطار الأوروبي، تشكل الحالة القومية الإسبانية نموذجًا فريدًا، باعتبار أن الدولة الإسبانية الحديثة تشكلت منذ القرن الثامن عشر على أساس المركزية الإقليمية في محورها القشتالي الذي يتحكم في المناطق المختلفة لغويًا وثقافيًا. ولقد منع هذا النموذج الذي بلورته الديكتاتورية العسكرية في عهد فرانكو الانتقال الديمقراطي إلى حدود 1978، فكرس الدستور أوانها فكرة “الأمة المكونة من أقاليم مستقلة”، دون أن يصل هذا الخيار حد النظام الفيدرالي. ففي حين يعترف الدستور القائم بالقوميات التاريخية (الكيان الباسكي، وكاتالونيا وغاليسيا)، إلا أنه يرفض مبدأ التعددية القومية القانونية.

ولقد شهدت إسبانيا في السنوات الأخيرة نقاشًا ثريًا حول مفهوم الأمة، بحسب ثلاث اتجاهات كبرى: أطروحة اليمين القومي الذي يدافع عن مقاربة أحادية للأمة دون هويات اختلافية متميزة، واليسار الليبرالي الذي يتبنى نموذج الأمة التعددية بقوميات لها حقوق سياسية نسبية، والحركات الانفصالية التي تتأرجح بين المطالبة بحق تقرير المصير، والحل الفيدرالي الموسع المكرس للتعددية القومية.

“سافاتير” يتميز بكونه ينطلق من نموذج كوني جمهوري، يرى في الأمة رابطة مدنية، لا قومية، تتأسس على معايير المواطنة والعقل والحقوق الفردية. الأمة من هذا الباب تقوم على العقد الديمقراطي بدلًا من الانتماءات الهوياتيّة التي لا تخلو من الإقصاء والانغلاق والتحكم. ولذا، اعتبر “سافاتير” أن النزعة القومية هي الشكل الحديث من الانتماء القبلي، وهي في عمقها تعبير إيديولوجي مناهض للقيم المدنية والديمقراطية الحديثة.

في كتاباته الفلسفية، يصدر مفكر إسباني آخر هو “خوسيه فاراتير مورا” عن نفس التصور التاريخي الديناميكي للأمة، فبالنسبة له ليست الأمة كيانًا طبيعيًا (عرقيًا أو ثقافيًا)، بل هي بناء تاريخي ناتج عن مسار وعي جماعي قصدي، لا بد أن ينفتح على الأفق الكوني الإنساني. وهكذا يتجاوز “مورا” مثل “سافاتير” الأيديولوجيات القبلية القومية التي تدافع عن الخصوصيات المحلية الضيقة من منظور إنساني كوني منفتح.

لقد وقفنا عند نموذج الأمة الإسبانية الذي يتميز بثلاث سمات مميزة داخل النسيج الأوروبي هي: فكرة الوطنية المركزية في سياق تعددي ثقافي ولغوي، والدور المحوري للدولة في بناء الأمة بمفهومها السياسي والمدني، والتأسيس الديمقراطي الليبرالي للرابطة الجماعية المندمجة.

في هذه التجربة، يمكن أن نستنتج درسين مهمين للفكر العربي المعاصر:
أولهما: الحاجة الحيوية للدولة الوطنية القوية والفاعلة، من حيث كونها الشرط الضروري لبناء أمة سياسية متماسكة ذات شعور مدني صلب. لقد أثبتت هذه التجربة أن العقبة الحقيقية التي تحول دون تشكل النسيج القومي الحي والموحد ليس التنوع الإثني أو الديني، بل ضعف أو غياب الدولة المركزية ذات المؤسسات المتينة والناجعة. فالدولة المركزية في عموم القارة الأوروبية هي التي أفرزت قاعدتها القومية، على عكس الصورة السائدة عن الأمة الواحدة التي بنت كيانها السياسي.
ثانيهما: إن أفضل خيار للحفاظ على الدولة المستقرة والمتماسكة هو منح مختلف القوميات والأقاليم حقوقها القانونية والسياسية، في إطار الوحدة الوطنية الجامعة، بما يتطلب الانتقال من التدبير الأحادي الاستبدادي للنظام السياسي إلى الإدارة الديمقراطية الحرة وما تعنيه من حقوق اختيار الهوية الذاتية المستقلة بدل الهوية الجامدة الموروثة.

التجربة الإسبانية من هذا المنظور المزدوج مهمة وأساسية، رغم أن الاهتمام الفكري العربي بها ضعيف ومحدود، وهي من أوجه عديدة قريبة للحالة العربية، وقد ظهرت أهميتها في السنوات الماضية في إطار إشكالات الانتقال الديمقراطي التي مر بها عدد من الدول العربية.