الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الأمة والوعي القومي في الهند: الإشكالات الراهنة
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

تشهد الهند راهنًا جدلًا نظريًا وأيديولوجيًا حادًا بخصوص مفهوم الهوية والانتماء القومي، على خط التمايز بين فكرة الأمة الديمقراطية التعددية، وأطروحة القومية الهندوسية الخصوصية.

هذا الجدل يعود إلى بواكير الحداثة السياسية الهندية، حيث كان الصدام قائمًا بين التصور الروحاني للأمة، والتصور المدني الليبرالي لها، ومن أوائل من بلور هذا النقاش النظري السياسي المعروف محرّر الهند الحديثة المهاتما غاندي والشاعر المشهور “روبندرونات طاغور” (الحاصل على جائزة نوبل في الآداب سنة 1913).

كان الاثنان يؤمنان بفكرة الأمة الهندية الروحية وإن اختلفا في تصوراتهما السياسية المترتبة على هذه الفكرة المحورية. بالنسبة لغاندي، تقوم الرؤية القومية على المعايير الأخلاقية والروحية، كما تترجمها مقولات أساسية من التراث الهندي مثل “أشيما” التي تعني اللاعنف واحترام كرامة كل كائن حي، و”الساتياغراها” التي تفسر بقوة الحقيقة أي بناء العمل السياسي على شجاعة الموقف والفكر والمعاناة، و”السواديشي” بمعنى الكفاية الذاتية، والزهد في مباهج الحياة والاكتفاء بالضرورات المعيشية. ومن هنا الفرق بين هذه النزعة القومية التي تعود إلى جذور حضارية محلية عميقة، والاتجاهات القومية الغربية التي يعتبرها غاندي  مغلقة وعدوانية ومادية، تتعارض مع قيم العدالة والأخوة الإنسانية لكونها تتأسس على النوازع العرقية، والتراتب الإثني والنظرة الدونية للآخر.

ومن هذا المنظور، تبنى غاندي فكرة الأمة الموحدة المتساوية في تنوعها الديني والاجتماعي، رافضًا منطق التفاوت الطبقي والتعصب الديني، بما حوله إلى بطل قومي يقوم عليه إجماع كل الطوائف، والمجموعات القومية والدينية الهندية. كان غاندي يرى أن أمته قادرة على أن تكون نموذجًا مثاليًا لكل الشعوب المعاصرة، من حيث سياسات التسامح والانفتاح والسلم، على عكس العدوانية التوسعية الغربية التي واجهها بشراسة في الحقبة الاستعمارية.

أما الشاعر طاغور (ت 1941)، فلئن كان وافق غاندي في  جوهر رؤيته الروحية الحضارية للقومية الهندية، إلا أنه كان أكثر ميلًا للنزعة الإنسانية الشاملة، معتبرًا أن الفكرة القومية تفضي دومًا للانعزال، والانغلاق والتقوقع على الجذور الذاتية. و لقد أكد على هذه الأفكار في كتابه “القومية” الصادر سنة 1917. بالنسبة لطاغور، يتعين على الهند أن تؤدي رسالة روحية في العالم، تُبنى على الجوانب الروحية والأخلاقية بدلًا من النفعية الاقتصادية والاستهلاكية، فالأمة في رأيه ليست جسمًا سياسيًا أو مدنيًا، بل هي روح جماعية لا بد أن تبقى متسامحة ومبدعة.

لقد شكلت أفكار غاندي وطاغور الخلفية الفكرية الأساسية للحركة الوطنية الهندية التي تمحورت حول حزب “المؤتمر الهندي” الذي تأسس في بومباي عام 1885، وقاد الحياة السياسية في البلاد طيلة القرن الماضي. لا شك في أن أهم زعامات هذا المؤتمر هو رئيس الحكومة السابق “جواهر لال نهرو” رفيق المهاتما غاندي في النضال السياسي الذي تقلد الحكم من سنة 1947 إلى تاريخ وفاته عام 1964. ومن المؤكد أن نهرو هو مؤسس الهند الحديثة وباني نهضتها، ولقد تأثر بقوة بالأفكار التنويرية والليبرالية الغربية الحديثة.

على عكس مقاربة غاندي وطاغور، تبنى نهرو نموذج الأمة الحديثة العلمانية والاشتراكية وأراد تأسيس الهوية الهندية على أسس المواطنة والديمقراطية بدلًا من الانتماء الديني أو الطائفي. العلمانية كما يتصورها نهرو تعني حياد الدولة تجاه مختلف الديانات والطوائف، والاشتراكية الديمقراطية هي بالنسبة له المسلك إلى القضاء على أشكال الغبن والتفاوت الاجتماعي الموروث. كان نهرو متشبعًا بقيم التحديث العلمي و التقني وأفكار التخطيط الاقتصادي والصناعي، واستطاع بالفعل تحقيق نهضة كبرى ملموسة لبلاده،  كما أنه كان  مؤثرًا وفاعلًا في المنظومة الدولية من خلال دوره المتميز في بناء حركة عدم الانحياز إلى جانب الرئيسين المصري  جمال عبد الناصر والإندونيسي سوكارنو.

بيد أن الهند التي عرفت لعقود طويلة التجربة الليبرالية الاشتراكية، انتقلت قبل سنوات إلى حكم اليمين القومي الهندوسي المتمحور حول حزب “بهاراتيا جانتا”، الذي تعود جذوره لبداية الخمسينيات، ويتميز بكونه يختصر الأمة الهندية في جذورها الحضارية الهندوسية.

يستند هذا الحزب إلى أفكار  “فيير سافركار” الذي هو شخصية فكرية وسياسية معروفة مثيرة للجدل، أصدر سنة 1923 كتابًا بعنوان “الهندوية: من هو الهندي؟”، طرح فيه فكرة الهوية الهندوسية للأمة الهندية من حيث هي وطن خاص بالقومية الهندوسية في بنائها الديني والروحي الخاص، مع التمسك بنزعة عنيفة إقصائية. في هذا السياق، يتبنى الحزب تصورًا إثنيًا ثقافيًا قائمًا على اعتبارات اللغة والدين من حيث كونهما دعامة الانتماء القومي.

ومنذ وصول الحزب للسلطة سنة 2014، تبنى سياسات متشددة متطرفة، دفعت ثمنها المجموعات المسلمة، وأحدثت شرخًا عميقًا في المجتمع الهندي يخشى أن يؤدي إلى الفتنة الداخلية، والحرب الأهلية وضرب المؤسسات الديمقراطية القائمة.

في السنة الماضية، أصدر وزير الخارجية الهندي “سوبرامانيام جايشانكار” كتابًا بعنوان “لماذا باهراتا مهمة؟” (Why Bharat Matters)، استخدم فيه تسمية الهند التقليدية التي يحبذها الحزب الحاكم حاليًا وقد ضمنها بالفعل دستور البلاد المعدل. في هذا الكتاب، يدافع المؤلف عن الاستمرارية التاريخية للهند من حيث هي حضارة سابقة على شكل الدولة الوطنية وتتجاوزها. ومن هذا المنظور، يحدد مكانة محورية لبلاده في النظام الدولي من حيث هي قوة عالمية متفردة بخصوصياتها الثقافية، تتمتع بسلطتها الخشنة ومواردها الصناعية والعسكرية التي تؤهلها لقيادة كتلة الجنوب الشامل. ومع أن الكتاب يحتفي بالسياسات القومية اليمينية للحزب المهيمن راهنًا في بلاده، إلا أنه يترجم عمق مشكل هوية الأمة الهندية في تنوعها الديني، والطائفي والطبقي.

ما تزال التجربة النهضوية والقومية الهندية مجهولة إلى حد بعيد في الفكر العربي، رغم التداخل الكثيف تاريخيًا وحضاريًا بين الهند والعالم العربي الإسلامي،  ورغم تزامن وتداخل حركات التحرر في المنطقتين. ولا شك في أن صدام الهوية الهندية الذي أشرنا إلى بعض ملامحه يستوقف المفكر العربي في تصوره، واستكناهه للواقع العربي ومآلاته المستقبلية.