الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

التنوير الكلاسيكي والتنوير الحديث
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

“ليو شتراوس” فيلسوف ألماني معروف، هاجر إلى الولايات المتحدة وعاش فيها بعد الحرب العالمية الثانية، وكان له تأثير واسع في الفكر السياسي الأمريكي.

من أهم ملامح فلسفة “شتراوس”، نقد التنوير الحديث الذي ينعته بالراديكالي، ويعني به الخط الممتد من “ديكارت” و”هوبز” و”سبينوزا”، إلى “كانط” و”روسو”.

لقد أدت حركية التنوير الحديث حسب “شتراوس” إلى تكريس العدمية والنسبية والتاريخانية المنفصمة عن التقليد، فأدت إلى تقويض القيم الأخلاقية الجوهرية، والنزعة الإنسانية، والفضائل المدنية والعقلانية الوجودية.

في هذا السياق، يبين “شتراوس” أن النزعة الذاتية الفردية التي هي السمة الغالبة على التنوير الحديث قوضت كليًا مفهوم القانون الطبيعي الذي هو أساس معايير العدالة، والخير والحقيقة. ما تم هو استبدال فكرة التعاقد الاجتماعي بالقانون الطبيعي، التي تعني أن الهوية السياسية المدنية مخترعة ومصطنعة، تستند إلى محض التوافق النفعي لا إلى مقاييس العدل والخير.\

كما أن المفهوم الحداثي للعقل ألغى من جهة القدرة على الوصول إلى حقائق الأشياء الثابتة التي اعتبرت حدودًا قصوى للمعرفة محصورة في الظواهر قابلة القياس والترويض وفق نموذج العلم التجريبي، ومن جهة أخرى أسس لوهم قدرة العقل على تعويض الوحي المنزل في ضبط حقائق الطبيعة والمجتمع، حتى في الغيبيات والمقدسات.

في هذا الباب، يكتسي “سبينوزا” أهمية خاصة، باعتبار كونه البداية الفعلية لمسار التنوير الحداثي في قطيعته مع الموروث الديني والسياسي الوسيط.

وكما هو معروف، بدأ “سبينوزا” طريقة النقد التاريخي العقلاني للنصوص المقدسة والكتابات المنزلة، وانتقد بشدة السلطة الكهنوتية ورفض المعجزات الخارقة، مختزلًا أسفار الأنبياء في الرسالة الأخلاقية الشاملة. “شتراوس” ينتقد بجلاء النزعة الطبيعية الوضعية لدى “سبينوزا”، ويرى أنها عاجزة عن فهم الدين في رسالته الكونية وتفضي إلى تشريع الاستبداد السياسي المطلق باسم سيادة الدولة وهيمنتها على الحقل الديني.
لم يكن “سبينوزا” سوى المحطة الأولى في مسار التنوير الحديث الذي بلغ مداه في نظريات العقد الاجتماعي والنزعة الليبرالية المدافعة عن أولوية الحريات على الواجبات، وانفصام السياسة عن الدين، والأخلاق والعقل عن النص.

في مقابل هذا التنوير الحداثي العدمي، يتبنى شتراوس نموذج التنوير الكلاسيكي، كما برز بقوة في التقليد الإسلامي اليهودي الوسيط، المرتبط أشد الارتباط بالفلسفة اليونانية التي تمحور اهتمامها حول العدل والفضيلة المدنية والعقلانية الجوهرية.

التنوير الوسيط هو ما تجلى في كتابات الفارابي، وابن سينا وابن رشد على الخصوص، وتمدّد إلى أعمال المفكرين اليهود وفي مقدمتهم ابن ميمون الذي تربى ونبغ في قلب الحضارة العربية الإسلامية.

التنوير الوسيط يتميز باستناده إلى مرجعية الفلسفة اليونانية، والجمع بين العقل والوحي الديني ونمط الكتابة الإيحائية الرمزية التي تناسب الموضوعات الحساسة المعقدة التي لا يمكن تناولها بالبيان الصريح والمنطق البرهاني الدقيق.

لقد حافظ التنوير الوسيط على الاستقطاب الثري بين العقل التعليلي والتقليد الموروث، وبين الطبيعة الثابتة والحرية الإنسانية، بين الدولة من حيث هو وحدة سياسية عليا والفضيلة الأخلاقية الكونية، بين أثينا والقدس.بالنسبة له شكل هذا الاستقطاب سمة مميزة لحركية تنوير تتفق مع أنوارية العصور الحديثة في المطلب العقلاني ومثال التحرر، لكنها تحافظ على المرجعيات الوجودية والأخلاقية الجوهرية، التي من دونها لا معنى للكونية الإنسانية ولا لمنظومة الحقوق الطبيعية الثابتة للبشر وفي مقدمتها النظام السياسي القادر على تكريس العدالة المطلقة.

لقد قيل الكثير عن نقدية “شتراوس”، وذهب البعض إلى أنها تفضي إلى أكثر التوجهات محافظة وانغلاقًا في الماضي، رغم أن الرجل لا يدعو في الحقيقة إلى النكوص لواقع مندثر لا سبيل لإحيائه. بل إنه ينطلق من أفكار وقيم التنوير الوسيط من أجل الوقوف على سلبيات وأمراض العصور الحديثة، معتبرًا أنه من التخلف إرجاع حركية التاريخ إلى الماضي السحيق، لكن المقارنة أداة تأويلية وبرهانية ضرورية لفهم الحاضر.

قبل سنوات أصدر المستشرق الألماني “توماس باور” كتابًا هامًا بعنوان “لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟”، فنّد فيه أطروحة الانحطاط الإسلامي، وبيّن فيه أن مقولة العصور الوسطى لا تتناسب مع سيرورة التاريخ الإسلامي.

بالنسبة له، يختلف معنى الدين ووظيفته في السياق الإسلامي عن التجربة الغربية، لكونه ظل دومًا مقومًا وجوديًا وثقافيًا للمجتمعات المسلمة من دون سلطة تأويلية ضاغطة، بما يفسر حالة الاختلاف والتباين الواسع التي تسم التقليد الإسلامي، وبالتالي لا معنى لمنهجية التحقيب المعتمدة في تاريخ الفكر الأوروبي.

بيد أن “شتراوس” يذهب أبعد من هذا التصور، في نقديته للخطية التاريخانية التي طبعت حركية التنوير الأوروبي، فليس للمعايير والقيم الحداثية أي مرجعية قيمية بديهية، بل إن الأساس في المنظور التنويري هو العقلانية والحرية وهما أرسخ وأوضح في التقليد العربي اليهودي الوسيط الذي حافظ على النفحة الفلسفية اليونانية.

بطبيعة الأمر، يركز “شتراوس” على اتجاهات بعينها يعتبر أنها تمثل المنظور التنويري الكلاسيكي: نظرية المدينة الفاضلة لدى الفارابي في تصوره للسياسة المدنية، وتأويلية ابن رشد المفضية إلى القول بتناسب الشرع والعقل الفلسفي، وباطنية ابن سينا التي تكرس منهجية تعدد مسالك التعبير عن الحقيقة الواحدة حسب السياقات والرهانات.

في مقال هام بعنوان “التنوير العباسي” (صدر بالفرنسية)، يربط مروان راشد بين حركية الترجمة والإبداع العلمي والرياضي في العصور الإسلامية الوسطى، وامتزاج الفلسفة الأرسطية وعلم الكلام العقلاني في الحقبة ما بعد السينوية، بما أفضى إلى تغيير نوعي في شروط البناء المعرفي ومنهجية النظر إلى الطبيعة والإنسان.

لقد ذهب مروان راشد في دراسات دقيقة إلى تتبع آثار هذه التحولات الفلسفية والمعرفية التي حدثت في العصر العباسي بموجة العصور الحديثة التي قامت على مقاييس الرياضيات الشمولية، والوعي الذاتي والدولة المدنية السيادية.

وهكذا يظهر بجلاء أن التنوير الوسيط في مرجعيته العربية (في امتداداتها اليهودية) شكل أفقًا رحبًا للتفكير الفلسفي والاجتماعي، بما يتسنى التأسيس عليه مجددًا في ديناميكية تحديث جديدة لا يمكن بطبيعة الحال أن تتم خارج التفاعل الحي مع العصور الحديثة.