الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الحداثة السياسية والنموذج الصيني
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

“زاهو تينغيانغ”، فيلسوف صيني بارز، أصدر قبل سنوات كتابًا بعنوان “الكل تحت السماء: نسق التيانكسيا من أجل نظام دولي ممكن” (نشرت ترجمته الإنجليزية عام 2021)، يعيد فيه الاعتبار لهذه المقولة الصينية الكلاسيكية التي كانت تعني في العهد القديم ما هو معروف عن العالم بصفته خاضعًا للإمبراطور.

بالنسبة لتينغيانغ، الدلالة الجديدة لهذا المصطلح تعني الدمج والاحتواء مقابل صراع المصالح، والتنافس، والهيمنة والسيادة الإطلاقية، كما هي سمة الفكرة السياسية في الغرب.

تقوم مقولة التيانكسيا على معيار “التلاؤم” والانسجام، أي التناسب بين مختلف الأفراد والمجموعات التي يتشكل منها العالم من حيث هو مجال مفتوح، لا خارج له، تتعايش فيه الشعوب والثقافات دون إشكال أو تنافر.

في الغرب، يعتبر النموذج السياسي المسيطر هو “المدينة” التي اكتشفها اليونان قديمًا، وهي تتأسس على القوة، والإكراه والشرعية الأحادية. أما التيانكسيا الصينية، فتقوم على منطق الضيافة والاستيعاب الانفتاح، وتبرز في مفاهيم دستورية محورية، هي:

  • النظرة الداخلية للعالم: أي دمج كل الأمم والأقوام في منظومة كونية مترابطة عضويًا.
  • العقلانية العلائقية بما تتأسس عليه من مبدأ الحد الأدنى من الصدام بدلًا من مبدأ تكثيف المصلحة الأحادية.
  • البحث الدائم عن التحسين لصالح جميع الأطراف، بدلًا من المنفعة الفردية الذاتية التي يتم استبدالها بالتداخل التضامني بين الذوات.

لهذه المقولة جوانبها الإبستمولوجية، والأخلاقية والاستراتيجية التي تميزها عن النسق الغربي.فمن حيث المعرفة، يتعين دمج كل المقاربات التأويلية للوجود، بدلًا من منطق الحقيقة الأحادية، والكون الواحد والعلم الاختزالي الذي يحصر المعنى والقيمة في الأحكام التجريبية الطبيعية.

ومن الناحية السياسية، يجب استبدال نموذج الدولة الإقليمية السيادية في الغرب برؤية جغرافية سياسية بديلة ترى في المعمورة مجالًا مشتركًا للعيش والحياة، تتعايش فيه الثقافات المتعددة والشعوب المتنوعة، وفق معايير العدل، والسلم، والترابط والبحث عن الخير الجماعي.

من هذا المنظور، يقدم الفيلسوف رؤية مغايرة للتصور السائد عن الحالة السياسية الصينية التي تختلف عن نموذج الديمقراطية الليبرالية المعتمدة في الغرب. بالنسبة له، تبرز نقطة الضعف في النظام الديمقراطي في مقوماته التصورية الغامضة، بما ينجرّ عنه كون الديمقراطية عصية عن التعريف الدقيق وعرضة لمختلف التأويلات المتعارضة. ففي العالم اليوم، تجارب ديمقراطية شديدة التباين، إلى حد يصعب معه تقويمها موضوعيًا، بل إن الديمقراطيات المختلة كثيرًا ما تلتبس بما يعتقد أنه ديمقراطية حقيقية. ولعل مصدر هذا الالتباس يرجع إلى التداخل بين منطق السوق التنافسية ومنطق التعددية السياسية التي هي في نهاية المطاف سوق من الأفكار المتضاربة على غرار البضائع التجارية.

ومن المؤسف أن معيار الأغلبية لا يقدم دومًا الحقيقة والخير، بل إن السُّلَط السياسية والمالية والإعلامية قادرة على التلاعب بالأصوات الشعبية والتأثير فيها. واليوم، مع شبكات التواصل الاجتماعي والثورة الرقمية الجديدة، استبدلت الديمقراطية بالترويج الإعلاني الذي يصوغ الوعي، ويوجه الرأي ويصنع الصورة العمومية.

صحيح أن الديمقراطية ما تزال بالنسبة للكثيرين أحسن نظام سياسي متاح للبشرية، لكنها في حقيقتها مجرد طريقة لتوزيع الحقوق والسُّلَط، ولا علاقة لها أصلًا بتحديد قيم الحق، والخير والعدل.

ومن هنا، يطرح الفيلسوف الصيني خيار ما أطلق عليه “الديمقراطية الذكية”، التي تقوم على المعرفة والعلم، بدلًا من الوهم والرأي السائد، ويكمل فيها الاختصاص الفني الموضوعي الصوت الانتخابي الحر، ويتبوأ فيها العلماء والخبراء مكانة تنفيذية يقتضيها تعقد شؤون العالم، واستحالة تسليم الأمور العمومية للسياسيين المحترفين.

من هذا المنظور، يرى أن الأساس في الديمقراطية ليس المسطرة الإجرائية التنافسية من تعددية حزبية وممارسة انتخابية، بل التمثيل الصحيح لمصالح الجميع وحمايتها، بما هو قريب من نموذج “الديمقراطية التشاورية” التي بلورها الحزب الشيوعي الصيني في مقاربته الإدماجية الاستيعابية للأمة الصينية في نظام مشترك منسجم وواحد.

يقترب هذا التصور من الفكر السياسي لفيلسوف صيني آخر هو “نشاينغ كينغ” الذي أسس حركة “النهضة الكونفوشيوسية”، وقد عُرف بنقده الراديكالي للديمقراطية الليبرالية القائمة على فكرة المساواة الحقوقية، معتبرًا أنها غير واقعية ولا تستند لمعرفة موضوعية دقيقة للإنسان، بل تتأسس على الصورية المجردة، والشعبوية المضللة والنسبية الأخلاقية الخطيرة. ومن هنا، طرح تصورًا بديلًا للسياسة يجمع بين ثلاثة أنماط من الشرعية: شرعية السماء التي تعني الأخلاقية الطبيعية العليا والمقدسة، وشرعية الأرض التي تحيل إلى حكمة التاريخ والثقافة، والشرعية الإنسانية أي الإرادة الشعبية الحرة. ومن هنا اقتراحه تشكيل نظام برلماني بثلاث غرف، تمثل إحداها الشعب وفق المبدأ الديمقراطي الاعتيادي، وتمثل أخرى المثقفين والحكماء والعلماء وفق مبدأ الاستحقاق التخصصي، وتمثل غرفة ثالثة التقاليد والقيم التراثية وفق مبدأ الاستمرارية الحضارية.

ماذا يمكن أن يستفيد الفكر النهضوي العربي من النموذج الصيني كما بلوره الفلاسفة الصينيون المعاصرون في قراءتهم النقدية للحداثة السياسية الغربية؟

ليس من السهل الجواب على هذا السؤال. فمن البديهي أن تجارب التحول الديمقراطي التي عرفها العالم العربي منذ أربعينيات القرن الماضي وفي العقود الماضية تعثرت لأسباب عديدة يطول شرحها. ولقد ولّدت هذه الوضعية أسئلة جوهرية تتعلق بالمسلك الأنجع لاستنبات الفكرة الديمقراطية في السياق العربي. ذهب البعض إلى ضرورة اعتماد المقاربة التدرجية التوافقية حلًا واقعيًا للانتقال من الاستبداد إلى الحرية السياسية (مقاربة محمد عابد الجابري)، في حين ذهب آخرون إلى البحث عن بديل مناسب يحقق العدل والسلم وفق الخصوصيات الثقافية والتراثية المحلية (محمد جابر الأنصاري).

ولا شك في أن الفكر الصيني المعاصر يقدم أفكارًا ثرية بخصوص معضلة التحول الديمقراطي والبدائل المجتمعية الملائمة لوضع مجتمعاتنا، وإن كان من البديهي أن فكرة التلاؤم والانسجام لا تكفي في ذاتها لتعويض قيم الليبرالية التعددية التي غدت أفقًا كونيًا للتحرر السياسي.

وبعبارة أخرى، إذا كان الفكر الصيني المعاصر وضع الإصبع على جانب أساسي من جوانب الحداثة السياسية في السياقات الثقافية والمجتمعية غير الغربية، إلا أن المطلب الليبرالي يظل حاجة موضوعية لاستكمال الحداثة السياسية العربية.