نقاط تشابه كثيرة بين العالم العربي ومنطقة أمريكا اللاتينية، من حيث مقومات الهوية الثقافية واللغوية والتاريخية، ومشاريع الاندماج القومي، والخلفيات الاستعمارية.
لا يعرف العرب الكثير عن تلك المنطقة التي عرفت منذ نهاية القرن الخامس عشر نمطًا فريدًا من الاستعمار الاستيطاني الأوروبي قضى على جانب أساسي من الوجود الاجتماعي والبشري الأصلي، ومن ثم ارتبطت الحركة القومية المحلية بهذه الذاكرة المأساوية في الوقت الذي تمحورت في بعض توجهاتها حول مقولة “الامتزاج” والتداخل بين الشعوب الأصلية والوافدين الأوروبيين.
مثل العالم العربي، عرفت هذه المنطقة قيام أنظمة عسكرية تسلطية مدعومة غربيًا، كما عرفت بروز حركة قومية نهضوية، هي الحركة البوليفارية نسبة إلى الزعيم الشهير “سيمون بوليفار” الملقب بالمحرِّر والمتوفى م1830 في سانتا مارتا بكولومبيا الكبرى (التي كانت تضم بالإضافة إلى دولة كولومبيا الحالية بلدانًا أخرى هي الإكوادور، وفنزويلا، وبنما وبعض مناطق البيرو والبرازيل وغويانا).
ما تزال ذكرى هذا الزعيم القومي حية في كل بلدان أمريكا اللاتينية، تنتمي إليه تسميات بعض الدول وتحمل أخرى عملاتها الوطنية اسمه، وله تماثيل في أغلب تلك البلدان، فضلًا عن دول أخرى عديدة في العالم.
لا يعرف الكثير عربيًا عن فكر بوليفار وتجربته السياسية، فالرجل الذي خصص حياته لتحرير منطقته وتوحيدها، كان على عكس الثوار القوميين العرب شديد التشبع بقيم التنوير الأوروبي من تحديث فكري واجتماعي، وفصل بين السلطات وتكريس مُثل الحرية والتقدم، فكان متأثرًا بكتابات “روسو” و”مونتسكيو” و”جون لوك”.
كان هدفه الأساس هو توحيد بلدان أمريكا الجنوبية في كيان سياسي واحد، وقد نجح بالفعل في تأسيس فيدرالية كولومبيا الكبرى التي تفككت وانهارت من بعده. ومع أنه شديد الإيمان بالمنظور الديمقراطي، إلا أنه اعتبر أن المنطق التاريخي يفرض على بلدان المنطقة المرور بمرحلة من الأنظمة المركزية القوية القادرة على ضمان الاستقرار السياسي وسد منافذ الفوضى والصراع الأهلي الداخلي. ومن هنا ما طرحه في “الميثاق القرطاجي” (1812م) من حاجة المشروع الاندماجي إلى أنظمة سياسية صلبة قادرة على قيادة مجتمعاتها بنجاعة نحو الخيار الفيدرالي الذي هو الأنسب لبلدان أمريكا اللاتينية. على عكس القوميين العرب الذين دافعوا عن نموذج الوحدة الفورية الشاملة، رأى “بوليفار” أن مسلك الاندماج الواقعي هو الإطار الفيدرالي المرن الذي يحفظ لكل بلد خصوصياته الذاتية ويوطد مقومات بنائه الوطني. ولقد اقترح بالفعل مشروعًا سياسيًا لتطبيق هذا المسلك في وثيقة “الدستور البوليفي” الصادرة سنة 1826م.
في رسائله وتصريحاته التي جُمعت لاحقًا، نلمس العمق الفكري في مشروع “بوليفار” الذي كان مثقفًا لامعًا وسياسيًا محنكًا، آمن بقوة بضرورة الجمع بين القيم الليبرالية الحداثية والنزعة القومية التي لا تكتفي بالدفاع عن الهوية الخصوصية، بل تنزلها في سياق كوني إنساني.
لم تنفك الأيديولوجيا البوليفارية تنشط وتتجدد في بلدان أمريكا اللاتينية خلال القرن الأخير، خصوصًا لدى التيارات اليسارية التي سيطرت على مقاليد الحكم في هذه البلدان في العقود الماضية. ومن أشهر من اعتمد علنًا هذه الأيديولوجيا الزعيم الفنزويلي “هيغو شافيز” الذي وصل للسلطة سنة 1999م وأطلق على بلاده تسمية الجمهورية البوليفارية الفنزويلية، واعتمد سياسة مناوئة للولايات المتحدة والغرب وتبنى إصلاحات اشتراكية تقليدية، كما سعى لتشكيل اتحاد اندماجي لشعوب أمريكا الجنوبية. إلا أن الكثيرين اعتبروا أن تجربة “شافيز” لا تعبر في شيء عن عمق البوليفارية التي لم تكن نزعة اشتراكية أو تسلطية، بل تبنت أفكار الحرية والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن “بوليفار” لم يكن يعتمد التصور الأوروبي الكلاسيكي للأمة في مقاربته للكيان الأمريكي اللاتيني، بل يرى أن الوحدة الإقليمية المنشودة في منطقته لا يمكن أن تقوم إلا على أساس مبدأ الهوية الاختلافية والامتزاج العرقي والثقافي من خلال مشروع سياسي مشترك، مفتوح على المستقبل غير مسجون في الماضي.
لقد فشل مشروع كولومبيا الكبرى الذي خصص له “بوليفار” حياته السياسية، من جراء التناقضات الداخلية وصراع النخب المحلية والتدخل الخارجي، ولم تنجح مبادرات الشراكة الإقليمية التي لم تفتأ تظهر في السنوات الأخيرة، لكن ما تزال البوليفارية قوة أيديولوجية قوية وفاعلة لدى أغلب التيارات السياسية النشطة في المنطقة، وإن كانت توزعت كما سنرى لاحقًا إلى اتجاهين متعارضين: قومي شعبوي يستند إلى حركة الإحياء المحلي، وما بعد كولونيالي له حضور لافت في تنظيمات اليسار الجديد.
ما هي الدروس التي يمكن الاستفادة منها عربيًا في مسار البوليفارية؟
لا بد من الإشارة هنا إلى بعض التماثل في التجربة التاريخية للعالم العربي وأمريكا اللاتينية، من حيث إخفاق محاولات الوحدة الاندماجية وإن اختلفت السياقات وعوامل الفشل. إلا أن الفرق الجوهري بين المنطقتين، هو نجاح عدد هام من دول أمريكا اللاتينية في حسم رهان التحول الديمقراطي والإقلاع التنموي على عكس البلدان العربية، كما أن مؤشرات الاندماج الاقتصادي والشراكة البينية أعلى داخل المجال اللاتيني الأمريكي بما يعزز إمكانات التوحد الإقليمي في تلك المنطقة.
وربما كان خط الفصل الأساسي بين السياقين هو كون الحركة البوليفارية استبطنت بقوة المُثل التنويرية والليبرالية، واستوعبت منطق البناء السياسي التعددي الذي تعبر عنه مقولة الديمقراطية في دلالاتها الواسعة، في حين قامت النزعة العروبية منذ نشأتها على مُثل شعورية وأيديولوجية مجردة لا أثر لها في الواقع السياسي والاجتماعي الفعلي.
ورغم أن الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر بلور في خمسينيات القرن الماضي فكرة الوحدة الكبرى لدول إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية ضمن منظور عدم الانحياز وبناء كتلة العالم الثالث، إلا أن الأواصر ظلت ضعيفة وهشة مع العالم اللاتيني الأمريكي الذي يحتوي على نخب قوية ذات أصول عربية وصل بعض عناصرها إلى السلطة عن طريق الانتخابات الديمقراطية الحرة. وما يزال هذا العالم قادرًا على مد الفكر القومي العربي بدروس مهمة وناجعة.