الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العرب وروسيا: الوعي الغائب
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

قبل عشرين سنة، شاركت في أول حوار عربي روسي نُظّم في مدينة الحمّامات التونسية بمشاركة عدد هام من المفكرين،  والمثقفين العرب والروس، في فترة كان الجدل ما يزال قائمًا حول تركة العالم السوفياتي ودور روسيا الجديدة في المنظومة العالمية.

لم تكن روسيا قد عادت وقتها إلى خارطة التوازنات الدولية، كما هو الحال الآن بعد سيطرة الرئيس بوتين على مقاليد الأمر، وإنما كان الانطباع السائد أنها تعيش أزمة هوية عميقة من جراء الاستقطاب الداخلي الحاد بين الميول الأوروبية الغربية، والتشبث بالذاتية الحضارية والقومية المحلية.

الواقع أن هذا الجدل ليس بالجديد، وله جذور بعيدة تعود إلى عصور الأنوار في القرن الثامن عشر، وإن كان تجدد بقوة في السنوات الأخيرة.

يكاد المؤرخون يتفقون على أن القيصر بيار الأول هو المؤسس الحقيقي في بداية القرن الثامن عشر لروسيا الحديثة، وهو الذي أنشأ عاصمتها الأوروبية سانت بطرسبرغ، وفي عصره أصبحت روسيا إحدى القوى الأوروبية الرئيسية في الساحة العالمية. وقد عمل بيار العظيم على إصلاح الجيش والإدارة والتعليم، واعتمد النموذج الغربي في التحديث. وعلى نهجه، سارت الإمبراطورة كاترين التي عرفت بمراسلاتها مع كبار الفلاسفة الأوروبيين في عصرها، وهي التي ضمّت القرم وتوسعت إلى البحر الأسود. ومع أن روسيا ظلت في الأساس دولة زراعية ضعيفة النسيج الصناعي، إلا أنها غدت قوة عسكرية مؤثرة في القارة العجوز في القرن التاسع عشر، قبل أن تندلع فيها أول ثورة شيوعية في العالم وتتحول إلى الإمبراطورية السوفياتية كقوة عظمى تتزعم الصراع القطبي ضد المعسكر الغربي.

مع تفكك الاتحاد السوفياتي وقيام الفيدرالية الروسية الحالية، تجددت الأسئلة حول جذور الهوية الروسية التي قامت تاريخيًا على مرتكزات ثلاثة كبرى هي: اللغة المشتركة التي تتحدث بها أغلبية السكان وهي مقوم الوحدة الوطنية وقاعدتها الثقافية الرئيسية، والكنيسة الأرثوذكسية التي تميز البلاد عن غرب وشمال أوروبا، والذاكرة التاريخية التي تتغذى من إرث حروب التحرر الوطني من الحروب النابوليونية إلى مقاومة العدوان النازي.

في الفكر الروسي ما بعد السوفياتي، يهيمن سؤال محوري حول هوية روسيا ورسالتها الحضارية: هل هي جزء من أوروبا أم لها حضارتها الخاصة التي تميزها؟ ويمكن في العموم أن نفرق هنا بين اتجاهين كبيرين لهما جذورها الفكرية البعيدة:

  1. التيار الغربي الذي يرى أن روسيا جزء من أوروبا، وعليها أن تعتمد نموذج التحديث الغربي بكل مقوماته ومرتكزاته من علوم، وقومية وأسلوب الحكم السياسي. ولقد تبنى بيار الأول والإمبراطورة كاترين هذا الخيار الذي أعيد له الاعتبار مرحليًا بعد نهاية الحرب الباردة. ويمكن أن نصنف الماركسية اللينينية التي سادت في روسيا قرابة نصف قرن في هذا الاتجاه، باعتبارها تصدر عن فلسفة سياسية غربية وإن كانت استخدمت كأيديولوجيا مناهضة للغرب الرأسمالي.
  2. التيار السلافي الذي يرى أن روسيا دولة حضارية تختلف عن نموذج الدولة القومية الأوروبية، ولها خصوصياتها الذاتية من عقيدة أرثوذكسية، ونظام مجتمعي قروي وروحانية قيمية. ولهذا التصور خطان أساسيان: ديني ينيط بروسيا مهمة روحية كونية هي تجسيد الحكمة الإلهية المطلقة (نيكولاس برديايف، وسيرغي بولغاكوف…)، وأدبي يرى في الروح الروسية تعبيرًا عن قيم الأصالة، والسمو والأخلاقية المتجردة (ديستوفسكي، وتولستوي وتشيكوف…).

في السنوات الأخيرة، أعاد النظام السياسي الاعتبار للتيار السلافي القومي الذي كان مقصيًا في العهد الشيوعي. ومن أبرز رموز هذا التيار الفيلسوف الشهير ألكسي خومياكوف (توفي عام 1860) الذي دافع في كتاباته عن الروح الحضارية الروسية الخاصة التي اعتبر أنها شديدة الاختلاف عن الثقافة الأوروبية الغربية القائمة على الفردية، والعقلانية المجردة والصراع الاجتماعي. فبالنسبة له، ثمة تعارض جذري بين المسيحية الأوروبية القائمة على السلطة المركزية أو نقيضها من تفتيت فردي، والأرثوذكسية الروسية التي هي عقيدة الوحدة والحرية الروحية. في هذا المنظور، اعتبر خومياكوف أن مفتاح التقليد الروسي هو مقولة “سوبرنوست” التي تعني “الأمة الروحية الملتحمة”، أي وحدة الأفراد والمجموعة في العقيدة المشتركة والنظر إلى الدولة ككيان روحي حيّ متضامن. ومن ممثلي هذا التوجه المفكر الآخر إيفان خيريفسكي (توفي 1856) الذي ركز على الفصل بين رؤية العالم الغربية القائمة حسب رأيه على العقلانية المحضة والصورية، في مقابل الرؤية الروسية للعالم التي تتأسس على الروحانية المكتملة الجامعة بين العقل والإيمان والتجربة الحية.

ولا شك في أن ألكسندر دوغين هو اليوم أهم ممثلي هذا الاتجاه الحضاري السلافي، وهو مفكر له تأثير واسع في مركز القرار والحكم. وقد عرف بنظريته الجيوسياسية المتمثلة في دعوته لتحالف أورو آسيوي واسع قلبه روسيا ضد الغرب الليبرالي الذي اعتبره في طور الانحطاط والتراجع.

ولسنا في حاجة إلى الحديث المستفيض عن نظريته السياسية الرابعة التي كثر الحديث عنها في الإعلام العربي.

وبالإضافة إلى دوغين، يمثل اليوم الإعلامي والكاتب الشاب ميخائيل رميزوف هذا الاتجاه السلافي، وهو معروف بنقده الراديكالي للغرب الذي يتهمه بالتوسع، والميل للهيمنة والعدوان، وفرضه لسياسات الهندسة الاجتماعية المناوئة للطبيعة البشرية وازدواجية المعايير في المواقف الديبلوماسية.

وقد دافع رميزوف في كتابه الأساسي “الروس والدولة” عن أطروحة السيادة الثقافية والحضارية الروسية في مقابل خطاب الكونية القيمية السائد في الأدبيات الغربية.

يمكن القول في خاتمة هذه الملاحظات، أن الفكر العربي بقدر ما يعرف جيدًا الأدبيات السوفياتية لأسباب أيديولوجية وسياسية بديهية، يجهل إلى حد بعيد الخطاب الروسي الجديد الذي يعبر عن هوية واهتمامات روسيا الراهنة بعد خروجها من المرحلة الشيوعية.

بعض الكتاب والسياسيين العرب يقرأ خطأ في توجهات القيادة الروسية الحالية مؤشرات العودة للصراع القطبي السابق، والبعض الآخر لا يرى فيها سوى قوة عسكرية توسعية لا تمتلك مرجعية ثقافية أو عقدية.

بعد عشرين سنة، ألاحظ أن الاهتمام العربي بروسيا الجديدة ما يزال ضعيفًا ومحدودًا، رغم عودة روسيا اللافتة إلى الخارطة الدولية، ورغم زخمها التاريخي والثقافي الهائل.