الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العرب و النهضة الأوروبية: النزعة الإنسانية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

عبارة “النهضة الأوروبية” تعني الحركية الفكرية الثقافية الواسعة التي عرفتها أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وشكلت مرحلة وسطى ما بين العصر الوسيط والأزمنة الحديثة.

والمعروف أن هذه الحركية تركزت في إيطاليا على الخصوص، وارتبطت بديناميكية الإصلاح الديني، والاكتشافات الجغرافية الكبرى وظهور المطبعة الذي غير مجرى المعارف والعلوم.

المضمون الثقافي الصلب لحركية النهضة يتعلق بالنزعة الإنسانية في إعادة اكتشافها للموروث اليوناني الروماني، وتأكيدها لحرية الإنسان، وكرامته وقابليته للتحسن الأخلاقي.

السؤال الذي يتعين طرحه هنا هو “هل كان للفلسفة الإسلامية والتراث الفكري العربي الوسيط دور في تشكل النهضة الأوروبية؟”

بطبيعة الأمر، لا بد هنا من نبذ منهج التأثير والتأثر السائد في كثير من الكتابات العربية السائدة في نزوعها التعسفي إلى إرجاع كل مكاسب الحداثة الغربية إلى العصور الإسلامية القديمة، فغرضنا ينحصر في تاريخ الفكر المشترك بين العالمين العربي الإسلامي والأوروبي الغربي.

وللإجابة على  هذا السؤال المحوري، يتعين علينا الرجوع إلى أحد أهم فلاسفة مفكري النهضة الأوروبية وهو الفيلسوف والأديب وعالم اللاهوت الإيطالي “جيوفاني بيكو دي لا ميراندولا”  (توفي سنة 1494)، وقد عرف بكتابه “حديث حول كرامة الإنسان” (Oratio de hominis dignitate)، الذي هو دون شك الوثيقة المرجعية لفكر النهضة.

لقد أراد المؤلف في هذا الكتاب المصالحة بين مختلف الفلسفات اليونانية، والعربية، واليهودية و المسيحية من خلال مقولة الحقيقة الكونية الواحدة ذات الصيغ التعبيرية المختلفة، وهي فكرة رشدية أثارت جدلًا واسعًا في العصر اللاتيني الوسيط.

في هذا الكتاب، يؤكد المؤلف حرية الإنسان وكرامته من منظور عقيدة الخلق الإلهي للبشر دون وصاية أو إكراه، معتبرًا أنها تفضي حتمًا إلى اعتقاد قدرة الإنسان على خلق أفعاله، والتحكم في مصيره وصياغة وضعه الوجودي بحسب محض اختياره.

وعلى عكس فكرة التنافر بين الإيمان والعقل المتجذرة في التقليد اللاهوتي الوسيط، يرى “دي لا ميراندولا” أن الاعتقاد والعلم متكاملان، وأن الفلسفة تقود إلى الإله وترفع الإنسان إلى أسمى المقامات الروحية.

ومن الجلي أن “دي لا ميراندولا” في تأسيسه للنزعة الإنسانية التي هي عماد فكر النهضة، ظل متشبثًا بالمرجعية الدينية، رغم الاحتجاج الشديد الذي لقيه مشروعه الفكري من البابا والمؤسسة الكهنوتية. الإشكال هنا يتمثل في طرحه لهذه الفكرة الكونية الإنسانية من منظور الحرية والعقل، في ما وراء اختلاف الاعتقاد والملة، مع اعتبار أن مختلف الديانات والأنساق الإيمانية قادرة على التوصل إلى نقاط إجماع مشتركة تضمن تضامن بني البشرية وتعاونهم.

ما تزال هذه الأطروحة بعيدة عن الحل العلماني الأوروبي لمشكل الصراع الديني الذي عرفته القارة بعد موجة الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، لكنها تنطلق من نفس الخلفية أي البحث عن نقطة ارتكاز لوحدة المجتمع على أساس كرامة الإنسان وحريته، كما كرستهما مختلف التقاليد الدينية والفلسفية.

ما لا يعرفه الكثيرون هو أن “دي لا ميراندولا” كان يعرف اللغة العربية، وقد ترجم كتاب ابن طفيل “حي بن يقظان” إلى اللاتينية (عن نسخة عبرية حسب ما يقال). وقد أثبتت المصادر الدقيقة أن العديد من كبار فلاسفة الحداثة مثل “جون لوك” و”سبينوزا” قد اطلعا على هذا الكتاب، الذي كان “دي لا ميراندولا” أول من عرف به في الثقافة الأوروبية.

غني عن البيان أن الفكرة الأساسية التي يدافع عنها ابن طفيل في كتابه الشهير هي قدرة الإنسان على الوصول بنفسه إلى الحقائق الإلهية والأخلاقية دون توجيه أو تسديد، بما يعني أن العقل البشري مؤهل ذاتيًا إلى إدراك مضامين الرسالة الدينية التي هي تأكيد لثوابت المعرفة العقلية.

هذه الفكرة هي أساس النزعة الإنسانية الحديثة في أوروبا، لكنها بمنظور التقليد الإسلامي الوسيط ليست بالجديدة، بل هي واسعة الانتشار في الكتابات الكلامية والفلسفية العربية القديمة.

في هذا الباب، لا بد من الإشارة إلى الإحالة  المرجعية  اليونانية المشتركة بين التجربتين العربية -الإسلامية والأوروبية- الغربية وان اختلفتا في السياقات والمحددات الزمنية والاجتماعية.
فعلى الرغم مما طرحته الموجة اليونانية من إشكالات واعتراضات في الحضارة الإسلامية الوسيطة، وبصفة خاصة مباحث الإلهيات، إلا أن جلّ علماء الإسلام ومفكريه وجدوا في الموروث اليوناني إطارًا هامًا لصياغة منظومة عقلانية وقيمية ذات صلاحية إنسانية كونية، وإن استندت إلى النص الديني المقدس.

ليس من همنا هنا الرجوع إلى الفلاسفة الذين ينظر إليهم كمجرد مترجمين وشارحين للمدونة اليونانية (من الكندي إلى ابن رشد)، والحال أنهم لم يتقبلوا بطريقة سلبية منفعلة الموروث الإغريقي، بل قرأوه من منطلقاتهم المرجعية الخاصة، فأعادوا بناء المشروع الفلسفي الأصلي بإدماج أفق التعالي والمفارقة (أي عقيدة خلق الإله القديم للكون المحدث بما فيه الإنسان المكرم بعقله وإرادته الحرة).

ومن هنا ندرك أن جوهر المشروع الميتافيزيقي الأرسطي قد تغير نوعيًا في المقاربة الإسلامية بإضافة إشكالات محورية سيكون لها لاحقًا تأثير واسع في فكر النهضة الأوروبية وعصر الحداثة الذي تلاها: الفصل بين الماهية والوجود، والوجوب والإمكان في الوجود، والمنطق والتأويل، وغيرها.

وحتى علماء الإسلام الذين حاربوا الفكر اليوناني القديم انتهوا في أغلبهم إلى اعتماد خلاصته المنهجية أي المنطق الصوري الذي اعتبر الغزالي أنه شرط في تحصيل العلم الموثوق، والأخلاقيات التي قامت إجمالًا على تصور الفضيلة الأرسطية، بل في نظرية البلاغة والبيان المرتكزة على ثنائية الحقيقة والمجاز كما يرى بعض الباحثين المعاصرين (أمين الخولي وطه حسين، وغيرهما).

حتى ابن تيمية الذي عرف بنقده للمنطق الصوري وتعصبه ضد الفلاسفة والمتكلمين، كان يقول صراحة إن أغلب كلام اليونان صحيح لا غبار عليه، ولم يكن اعتراضه يتجاوز بعض الآراء في الإلهيات التي اعتبر أنها راجعة إلى اختلاف الديانة اليهودية عن دين التوحيد، وهو نفسه تأثر حسب خصومه ببعض النظريات الفلسفية اليونانية في آرائه حول القدم النوعي للحوادث، وحلول الحوادث في ذات الله.

وعلى العموم نلاحظ أن فكرة الكونية الإنسانية وما تقوم عليه من تأكيد حرية الإنسان وكرامته متجذرة في التقليد الإسلامي الوسيط، حتى لو كانت حاضرة نوعًا ما في الموروث اليوناني. وفي كتاب “دي لا ميراندولا” الذي أشرنا إليه اعتراف بهذه الحقيقة، من خلال المطالبة بالبناء على المشترك العقدي بين الفلسفات والديانات المختلفة، للوصول إلى قيم كونية جامعة للبشر.