من الأسئلة التي كثيرًا ما يطرحها مؤرخو الأفكار، العلاقة بين فكر النهضة الأوروبية وحركية الإصلاح الديني، بتحديد ما إذا كانت هذه الحركية نتيجة طبيعية لأفكار التجديد والنزعة الإنسانية التي تبنتها عصور النهضة، أم هي مستقلة في نشأتها ومناحيها اللاهوتية والعقدية.
للإجابة على هذا الإشكال، لا بد من استعراض أهم وجوه التجديد التي حملتها حركية الإصلاح الديني في أوروبا التي برزت في بداية القرن السادس عشر لدى “مارتن لوثر” و”جان كلفين” على الأخص، وتمحورت حول مرتكزات أربعة أساسية هي: إيمان الضمير الفردي، ومواجهة السلطة المؤسسية الكهنوتية، وتقنين حقوق الحرية الدينية، وتكريس الممارسة التأويلية المنفتحة للنص الديني.
من دون شك، يعد رجل الدين الألماني “مارتن لوثر” (توفي 1564) أب الإصلاح الديني الحديث في أوروبا، وقد غيرت أفكاره جذريًا نمط التدين المسيحي. في أطروحاته الشهيرة ورسائله الكبرى، يعالج لوثر موضوعين أساسيين هما: مضمون الاعتقاد والإيمان، وسلطة المؤسسة الكنسية في تأويل النص وتقنين الخلاص وضبط الممارسة الدينية الصحيحة.
بخصوص الإيمان، يحرص “لوثر” على الفصل بين الاعتقاد والأعمال التعبدية، معتبرًا أن الخلاص هبة ربانية وليس ناتجًا بالضرورة عن الممارسة والعمل. هذا المبدأ الذي يطلق عليه “التعليل بالإيمان” (Sola Fide)، يعني أن الإيمان ثقة ذاتية وفردية في الرب وليس مجرد اعتقاد عقلي، ولا يحتاج إلى وساطة مؤسسية لتقنينه، بل ينشأ في قلب المؤمن ويقوم على تجربة روحية حية ومباشرة بالخالق. أما فضائل الأعمال، فهي ثمرة الإيمان وليست شرطًا فيه، ولا يترتب عليها حتمًا الخلاص الأخروي، الذي هو في الحقيقة تفضّل إلهي محض. ينتج عن هذا الرأي، أن كل مؤمن يمكن أن يخاطب الله ويدعوه دون وسيط، على عكس ما كانت تكرسه المؤسسة الكهنوتية. كما ينتج عنه أن الإنسان غير قادر بملكته العقلية على معرفة الإله، بل أقصى ما بإمكانه منح ثقته للرب عبر تجربة الحب التي هي الرابطة الروحية العضوية، وتتجسد من خلال النص المنزل المعبر عن الإرادة الإلهية. ومن هنا أهمية الكلمة التي هي دائرة التفكير والتأويل الحر التي تمنح للإنسان السكينة والاطمئنان، وتحرره من الخوف والضعف. ليس الكتاب المقدس بالنسبة لـ”لوثر” مجرد نص مقروء، بل هو “الصوت الحي للإله” الموجه لقلب المؤمن. ومن ثم، فإن تلاوة هذا الكلام المقدس هي التقاء بالإله نفسه عبر الاستماع إلى رسالته المطلقة.
ولقد عمل “لوثر” على نقل الكتاب المقدس من اللاتينية التي كانت خاصة بالقساوسة، إلى الألمانية التي هي لغة العامة في عصره، لكي يكون كل مسيحي قادرًا على الاطلاع المباشر على هذا النص الذي هو محور تجربته الروحية الفردية والمباشرة.
بخصوص سلطة المؤسسة الدينية، حارب “لوثر” تحكم القساوسة والرهبان في الاعتقاد الديني والممارسة التعبدية، معتبرًا أن كلام الإله المنزل هو وحده السلطة المقبولة في تقنين الإيمان وضبطه، وليس للبابا ولا الكنائس أي أهلية للتدخل في معتقدات الناس أو فهمهم للنص المقدس. في هذا الباب، أعلن “لوثر” رفضه لمبدأ تخصص الأفراد بإدارة الحقل الديني، فكل المسيحيين بالنسبة له رجال الدين أمام الرب وهم قادرون على مخاطبة الإله مباشرة وفهم كلامه بحرية. ولقد رفض “لوثر” الطقوس المألوفة في الكنيسة الكاثوليكية من مراسيم الزواج والغفران والتبريك التمريضي وغيرها، مبقيًا فقط على المعمودية والمناولة الروحية (العشاء الأخير في دلالاته الرمزية التضامنية).
أما عالم اللاهوت الفرنسي السويسري “جان كلفين” (توفي 1546) فقد ركز في كتاباته حول المؤسسة الدينية وشروحه للعهد الجديد على نفس الرؤية العقدية للإيمان والاعتقاد، ونفس النقد لسلطة المؤسسة الكنسية في العبادة والممارسة، من منظور فكرة السيادة الإلهية المطلقة، وأولوية الانضباط والسلوك الأخلاقي الصارم على الأنساق اللاهوتية.
بيد أن الإضافة الكبرى التي عرف بها فكر “كلفين” في الإصلاحية الدينية هي منظوره للجبرية من حيث هي النتيجة الطبيعية للإيمان بصفات الإله القادر، العالم والحكيم، الذي لا يخرج شيء عن إرادته، ومن ثم يقرّر أنه رسم مصير العالم والبشر قبليًا، ولا معنى للاختيار الإنساني اعتقادًا وممارسة، بل الخلاص نعمة ربانية محضة لا دخل لأحد فيها. إلا أن “كلفين” يرى أن هذه الرؤية الجبرية يجب ألا تخيف الإنسان أو تقلقه، بل يجب أن تجلب له الطمأنينة والثقة الكاملة في الخالق، أما الاستقامة والنجاح في العمل فهما دليلان واضحان على الاصطفاء الإلهي.
في كتابه الشهير “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” (صدر سنة 1905)، يبين عالم الاجتماع الألماني “ماكس فيبر” أن عقيدة الجبرية الكلفينية هي الخلفية العميقة للروح الرأسمالية، باعتبارها كرست نزعة الخلاص والاصطفاء عن طريق العمل والانضباط والنجاح الوظيفي المهني.
ليست هذه القراءة مدار إجماع في الدراسات التاريخية والاجتماعية، فلا مكان لمفاهيم التحرر السياسي والديمقراطية في الفكر البروتستانتي الذي ركز على مقتضيات النظام والانضباط في تقنين النظام الاجتماعي، وإن كانت عقيدة الإيمان والخلاص الفردي فتحت الباب لحرية الوعي والضمير الفردي.
ومع أن الإصلاحيين المسلمين منذ جمال الدين الأفغاني إلى حسن حنفي، دعوا إجمالًا إلى نمط من “البروتستانتية الإسلامية” على غرار التحول النوعي الذي حدث في التقليد المسيحي، إلا أن العديد من الدراسات الراهنة كشفت عن التداخل الكثيف بين حركية الإصلاح الديني المسيحي والنزعة العقلانية التنويرية في الإسلام الوسيط.
في هذا الباب، نشير إلى أعمال “آلان دي لابيرا” الذي بين أن المفاهيم التي بلورتها الإصلاحية المسيحية في التأويل النقدي للنص المقدس وتحديد الاعتقاد الذاتي الحر، لها أصولها وخلفياتها الواضحة في التقليد الإسلامي الوسيط. فلقد بلور ابن رشد في كتاباته المترجمة مبكرًا إلى اللاتينية فكرة التفكير الذاتي الحر، والعقلانية التأويلية المستقلة ورفض الأحكام اللاهوتية الجاهزة. ذلك ما سمح لـ”جان بابتست برنيه” بالقول إن فيلسوف الحداثة الحقيقي هو ابن رشد من خلال تصوره “الهجومي” للعقل الذي يواجه بصرامة منطق التحكم في الاعتقاد والمعرفة.
أو بعبارة عبد الله العروي، لم يشعر الإصلاحيون المسلمون بضرورة الإصلاح لأن الإسلام يقوم في جذوره العميقة على الاعتقاد بأنه نتاج الإصلاح الديني وخاتمته التاريخية.