بقلم ماتيلد بيكارازي، متدربة في مركز النهضة الاستراتيجي
نادرًا ما تحدث الأزمات المناخية والاقتصادية والسياسية بمعزل عن بعضها، إذ كثيرًا ما تتزامن موجات الجفاف، ونقص الغذاء والنزاعات لتخلق حالات طوارئ إنسانية متلاحقة تؤثر على المجتمعات الضعيفة أصلًا. ويُعد الوضع على طول الحدود الأردنية السورية مثالًا واضحًا على العبء الهائل الذي يضعه تدهور كمية المياه وجودتها على كاهل نظام غذائي يعاني الهشاشة منذ البداية. من جهة أخرى، لم تعد الزراعة مصدر دخل موثوق للعديد من الأسر، الأمر الذي يدفع هذه الأخيرة إلى الهجرة إلى المدن أو الاعتماد على طرق التجارة غير المستقرة عبر الحدود، والتي غالبًا ما تكون عرضة للتوترات السياسية. وقد أدى استمرار الصراع، وتصاعد العنف والاتجار بالمخدرات إلى تشديد الرقابة الأمنية، ليزيد من انعدام موثوقية هذه التجارة.
علاوة على ذلك، ورغم ضرورة وجود عمل منسق وتكيف مجتمعي للحد من مخاطر الكوارث في هذه المنطقة الهشة، تُعقّد التوترات الجيوسياسية المستمرة جهود التفاوض على أطر تعاون متوازنة، ما يُبرز حساسية المفاضلة بين استعادة الأراضي السورية -التي قد تُحقق الاستقرار الإقليمي- ووصول الأردن إلى موارد مائية حيوية عابرة للحدود، إذ قد يُفاقم انتعاش الزراعة في سوريا أيضًا من شحّ المياه في الأردن عند مصب نهر اليرموك. يُعيد تضافر هذه العوامل تشكيل الظروف الاجتماعية والاقتصادية في شمال الأردن، ليجبر الأسر على التكيف مع سبل عيشها.
تنبع مصادر المياه العذبة في الأردن من أحواض عابرة للحدود، ما يجعل اعتماد البلاد الرئيسي على جيرانها في منابع هذه المياه. ويتجلى هذا الاعتماد خاصة في نظام نهر اليرموك في جزئه الأردني (يُعد نهرا الأردن واليرموك مصدرين أساسيين للمياه في الشرق الأوسط)، إذ أدى انخفاض التدفق المائي، والإفراط في استخراج المياه والنزاعات المتكررة إلى تقويض الأمن المائي تدريجيًا. والواقع أن ندرة المياه في الأردن ليست نتاج نقص مطلق وحسب، بل تتأتى أيضًا عن التوزيع غير العادل والتعاون الإقليمي المحدود. وفي هذا الشأن، اتبعت الحكومة الأردنية تدابير تتعلق بجانب العرض عوضًا عن الطلب، مثل مشاريع تحلية المياه الجديدة، والحد من التسرب المائي، وبرنامج نقل المياه التجريبي من البحر الأحمر إلى البحر الميت.
ومع ذلك، فغالبًا ما لا تستجيب هذه التدخلات للاحتياجات الحقيقية في المناطق الحدودية البعيدة عن المدن الكبرى، ما يؤثر بصورة غير متناسبة في الأسر الريفية ويفاقم من عدم المساواة. وتُستخرج موارد المياه الجوفية الآن بما يقرب من ضعف قدرتها المستدامة، بينما يتواصل الانخفاض في مستوى إعادة تغذية المياه الجوفية بالأمطار. في هذا السياق، تُشكّل الزراعة محورَ المعضلة، إذ تستهلك أكثر من نصف المياه العذبة الوطنية، بينما لا تتجاوز مساهمتها نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي. ويتفاقم الوضع خصوصًا في محافظات الشمال المجاورة لسوريا، مثل المفرق وإربد.
وهنا، يتزامن الاعتماد على المياه العابرة للحدود مع ضغوط اجتماعية واقتصادية، وتدفقات اللاجئين، وتشديد الإجراءات الأمنية على طول الحدود. وتزيد هذه العوامل من الكُلف وحالة عدم اليقين التي تُحيط بصغار المزارعين. كما يُقوّض تدهور جودة المياه جدوى الزراعة، لا سيما بالنسبة لصغار المنتجين غير القادرين على تحمل تكاليف تحلية المياه، أو ضخها أو تقنيات التوفير في المياه، والذين يُجبرون على الاعتماد على مياه الصرف الصحي المعالجة.
تركت الاتفاقيات بين الأردن وسوريا لعامي 1953 و1987 بشأن نهر اليرموك تقاسم المياه بين البلدين غامضًا، إذ تستحوذ سوريا وسدودها الـ 42 الآن على 80% من مياه نهر اليرموك، الأمر الذي يقوض قدرة الأردن على الوفاء بالتزاماته. يعكس هذا الخلل تفاوتًا أوسع في القوة والمناورات السياسية أكثر من كونه مجرد نزاعات فنية أو تقنية بحتة. على صعيد آخر، أدى تدفق 1.3 مليون لاجئ سوري إلى تفاقم أزمة المياه في المنطقة في محافظات الشمال في المملكة، ما تسبب في مخاوف بيئية وصحية خطيرة بالنسبة للاجئين والسكان المحليين. أعاد الصراع في سوريا تشكيل موارد المياه والأراضي المشتركة على طول الحدود الجنوبية السورية الشمالية الأردنية جذريًا، حيث أدى النزوح القسري، مع ضعف احتمال العودة الفورية، إلى تفكيك سبل العيش في النظام الزراعي الغذائي وتقليل إنتاج الغذاء. كذلك، أدت سنوات العنف والنزوح وتراجع استخدام الأراضي الزراعية المروية في جنوب سوريا، عقب الأحداث والأزمة، إلى زيادة غير مقصودة في تدفقات نهر اليرموك، ما خفف مؤقتًا من الضغط المائي على الأردن. ومع ذلك، يعكس هذا الوضع اضطرابًا في الأحوال عوضًا عن أن يكون إدارة مستدامة للموارد. تشير الأبحاث إلى أنه في حال عودة الزراعة في جنوب سوريا إلى مستويات ما قبل الصراع، فستعاني التدفقات العابرة للحدود إلى الأردن من حالة حرجة.
في الوقت نفسه، للاجئين السوريين دورهم الهام في القوى العاملة الزراعية المحلية. كما أن حصولهم على دعم مباشر من وكالات الأمم المتحدة، قد يؤدي إلى قبولهم بأجور أقل وأداء الأعمال غير الرسمية، ما يمنحهم ميزة في سوق العمل مقارنة بالعمال المحليين، بما يسمح لأصحاب المزارع بخفض تكاليف الإنتاج تاليًا. ومع ذلك، فإن حوالي ثلث أسر اللاجئين السوريين هي من تلك التي تعولها النساء، الأمر الذي يعني أن القوى العاملة الزراعية تتكون أيضًا، وعلى نحو رئيسي، من النساء ممن يجري تشغيلهن باعتبارهن عاملات مؤقتات إلى جانب عملهن أثناء المواسم. ومع ذلك، فهن يكسبن نصف الأجور التي يحصل عليها الرجال فقط، كما تكون قوتهن في التفاوض على الأجور ضئيلة، إضافة إلى أن تمثيلهن يبقى ناقصًا. تعاني أولئك النساء من محدودية الوصول إلى العمل جراء الأعراف الاجتماعية، وقيود التنقل، ومسؤوليات الأسرة، كما تشكل السلامة مصدر قلق لهن، وذلك لجسامة خطر التعرض للكيماويات الزراعية على الخصوبة. تساهم كل هذه العوامل مجتمعة في ارتفاع معدلات انعدام الأمن الغذائي التي تزداد على نحو ملحوظ عندما يستطيع أصحاب المزارع استغلال العمال اللاجئين.
بدأت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في الأردن مؤخرًا بتقديم المساعدة للاجئين الذين يختارون العودة طوعًا إلى سوريا، وقد يكون لهذا آثار ملموسة على إعادة تشكيل الاقتصادات الزراعية المحلية، وذلك على الرغم من كون البيانات في هذا الصدد ما تزال قيد الجمع. في سيناريو مستقبلي محتمل، سيُجبر غياب القوى العاملة التي اعتمد عليها القطاع طويلًا أصحاب المزارع على توظيف المزيد من السكان المحليين، الأمر الذي سيرفع من الأجور، ويزيد من تكاليف الإنتاج وأسعار المنتجات. علاوة على ذلك، يعتمد المنتجون على استراتيجيات تكيف قصيرة الأجل بدلاً من خطط الاستقرار طويلة الأجل. على سبيل المثال، يزيد استخدام المياه الملوثة لأغراض الري من وجود الحشرات، ما يدفع إلى زيادة استخدام المبيدات الحشرية، ويؤدي هذا بدوره إلى تدهور جودة المنتجات وطعمها. كما أن لهذه الصعوبات الإنتاجية تداعياتها التجارية، إذ يجعل فشل اختبارات الجودة المنتجات غير صالحة للتصدير.
مع انهيار القطاع الزراعي، تعتمد المجتمعات المقيمة في شمال البلاد على الأسواق الدولية لتوفير احتياجاتها الغذائية، إذ عادةً ما تكون المنتجات المستوردة إلى الأردن أقل تكلفة من تلك المباعة في الأسواق المحلية. ومع ذلك، تزداد هشاشة هذا النظام، فقد عطّل الصراع في سوريا طرق التجارة التقليدية، كما أن تسييس الغذاء المتزايد يُعرّض السكان لتقلبات كبيرة في الأسعار. يُظهر معبر جابر/نصيب الحدودي بين سوريا والأردن، المعروف باسم “رئة البلاد الشمالية”، بوضوح مدى قدرة التحولات المفاجئة في السياسات على الحدود على أن تمثل صدمات اقتصادية تُعادل في تأثيرها الجفاف. وقد أدى عجز الدول عن تعويض اعتمادها على هذا الطريق خلال فترات إغلاقه الدورية، بسبب الحرب في سوريا (نيسان/أبريل 2015 – تشرين الأول/ أكتوبر 2018)، وقيود جائحة كوفيد-19 (تموز/ يوليو 2020 – حزيران/يونيو 2021)، وتشديد الإجراءات الأمنية بسبب تهريب المخدرات والأسلحة ونشاط المسلحين الإيرانيين في المناطق الحدودية الجنوبية من سوريا، إلى ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية ومعدلات فقر الدم بين النساء والأطفال، إذ اضطرت الأسر إلى تقليل التنوع الغذائي. وعلى العكس من ذلك، فعند تخفيف الضوابط الحدودية، استقرت تدفقات التجارة والأسعار بسرعة، الأمر الذي أثر إيجابًا وفورًا على سبل العيش.
ركزت الدراسات الأخيرة في الأردن على استكشاف آليات مساهمة المجتمعات المضيفة واللاجئين في توليد سبل العيش في قطاع الأغذية الزراعية، وسعيهم إلى حلول علمية تعزز المرونة الريفية في المناطق المتضررة من النزاعات. في المناطق الحدودية الهشة، تتعدد أبعاد مخاطر الكوارث: إذ يتشابك المناخ، والنزاعات، والنزوح والحوكمة على نحو وثيق. لذا، يتطلب الحد من المخاطر اتباع نهج النظام بأكمله. كما ينبغي أن تعكس تخصيصات الموارد المائية الواقع الراهن بدلاً من اعتمادها على الاتفاقيات القديمة، إلى جانب ضرورة أن تتضمن التوقعات المناخية. أيضًا، يجب أن تُمكّن الطرق الحدودية المستقرة والقابلة للتنبؤ التجار والمزارعين من التخطيط للمستقبل، بما يقلل من الصدمات الاقتصادية الناجمة عن الإغلاقات المفاجئة. كما ينبغي أن تعزز السياسات دور المزارعِات وقدرتهنّ على التأثير. علاوة على ذلك، ينبغي أن تشمل خطط التكيف الوطنية، واستراتيجيات الحد من مخاطر الكوارث، وأنظمة الإنذار المبكر، أصوات المجتمعات المتضررة واحتياجاتها الخاصة على نحو كامل وشامل.
لم يعد الخيار محصورًا بين التكيف قصير الأجل والاستقرار طويل الأجل، إذ تستحق المجتمعات المهمشة ما هو أكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة. ومع ذلك، ودون تدخل فوري، ستزداد دائرة الضعف سوءًا. إن ما نحتاج إليه الآن هو التحول من الاستجابة للطوارئ إلى المرونة البنيوية، وذلك حتى يتسنى لسكان المناطق الحدودية اكتساب لا مجرد الوسائل اللازمة لتحمل الصدمات، بل والتمتع بمستقبل يقوم على الكرامة، والأمن والاستقرار الدائم.