الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

تركة التنوير ورهانات الحاضر
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

قبل وفاته بسنوات قصيرة، كتب الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي البلغاري “تزفتان تودوروف” كتابًا هامًا بعنوان “روح الأنوار” (صدر سنة 2006). في هذا الكتاب الأساسي الذي يستعرض فيه تركة التنوير، يعتبر “تودوروف” أن التنوير ليس مرحلة تاريخية منقضية، بل هو مجموعة من المبادئ والتوجهات التي ما تزال راهنة وحية. ومن أهم هذه المبادئ: فكرة الاستقلالية التي تعود إلى الفيلسوف الألماني “كانط” وهي تعني الاستخدام الحر للعقل خارج أي سلطة وصاية متحكمة وضاغطة، والنزعة الإنسانية التي تعني السعي للرفع من مستوى النوع البشري في مختلف المجالات الأساسية، والنزعة الكونية التي تستند إلى فكرة الكرامة الإنسانية ومساواة الناس في الحقوق والحريات.

إلا أن حركية التنوير ولّدت في الغرب موجة مضادة، برزت بقوة في الفلسفات والأفكار التي سادت في القرنين الأخيرين على نطاق واسع. من هذه الاتجاهات منح الأولوية للمجموعة على حساب الفرد كما هو ظاهر في الأيديولوجيات القومية الشعبوية التي تنتقد مبدأ الذاتية الذي هو منطلق التنوير الحديث، والقول بالخصوصية الثقافية العضوية والتعددية القيمية في مقابل الكونية الإنسانية، واستبدال العقل النقدي بالتقليد والحدس بما هو بارز في الاتجاهات المحافظة الرافضة قيم التقدم والتطور الحضاري، والتركيز على الخطاب الهوياتي لتبرير المركزية الاستعلائية والتفاوت الاجتماعي.

ولقد بيّن “تودوروف” أن القرن العشرين عرف نمطين من التجاوز، تسبب في أحدهما التنوير الراديكالي، بما انعكس في النزعات الوضعية العلموية، والكليانية العقلانية، وتسبب في ثانيهما التنوير المضاد، بما تجلى في التيارات الفاشية والقوميات المتعصبة.

وهكذا يظهر أن التنوير ليس بمنأى عن الاستغلال الأيديولوجي السلبي، حتى ولو كانت نقديته تفضي أحيانًا إلى التعصب، والجمود والانغلاق. ومن ثم، يغدو من الواضح أن التنوير لا يمكن اختزاله في تجارب تاريخية معينة، بل هو مثال غائي يتعين بلوغه من خلال المبادئ، والمرتكزات المرجعية التي يقوم عليها.

وهكذا يخلص “تودوروف” إلى أن التنوير مشروع إنساني للمستقبل، وهو مطلب ضروري يجب تجسيد مبادئه الثابتة وفق تحديات الحاضر. في هذا الباب، لا بد من الدفاع عن فكرة الاستقلالية لمواجهة اختلالات التواصل الرقمي الحالي والنزعات الشعبوية التبسيطية الصاعدة بما يدل على أن الاستقلالية تختلف عن الانكفاء الفردي وتعني القدرة على الحكم الحر من أجل المشاركة الفاعلة في الخير المشترك. كما لا بد من توطيد التصور الكوني لمواجهة التشرذم الهوياتي، والظواهر التمييزية والإقصائية التي تتنكر لمعايير المساواة بين البشر، وقيم الحوار والتواصل والتعايش بين الثقافات. وفي الاتجاه نفسه، من الضروري مراعاة محورية الإنسان في مختلف المجالات الاقتصادية، والتقنية والسياسية، بما يعني أن النظم المؤسسية يجب أن تكون في خدمة الإنسان وبالتالي ليست لها وظيفة إجرائية ذاتية.

النزعة الإنسانية لدى “تودوروف” هي نزعة معتدلة تتعارض مع الأيديولوجيات اليقينية والتصورات الوثوقية الدوغمائية، لكنها ترفض العدمية النقدية والنسبية الأخلاقية. وبذا؛ تتسم بالانفتاح والعقلانية والتواصلية.

فإعادة الاعتبار لفكر الأنوار تقتضي الدفاع عن المبادئ الإنسانية في هذا الفكر، سعيًا إلى غرس قيم العقلانية النقدية، والتحرر الاجتماعي والحوار الثقافي البناء، وتلك كلها أهداف راهنة بقدر ما كانت في السابق مطالب ملحة وضرورية.

في كتاب صادر في السنة ذاتها بعنوان “الأنوار التي تعمي الأعين”، يتساءل “رجيس دوبريه”: “أين نحن من حيث علاقتنا بالأنوار؟”. ما يهمه هنا ليس الوقوف على فكر فلاسفة التنوير الأوروبي، بل معالجة تركة التنوير في الوضع الراهن، معتبرًا أن الأنوار صارت بمثابة “الأسطورة المؤسسة للغرب”. فمن جهة نلاحظ أن الأنوار موضوع تقديس شامل على غرار المعتقدات الدينية المطلقة التي ينقاد لها الناس بالإيمان والإذعان، لكنها من جهة أخرى شعار أيديولوجي يستند إليه في تبرير مواقف سياسية متباينة، فعادة ما تختزل قيم التنوير في شعارات التسامح، والعقل والتقدم والعلمانية، بما يترجم نظرة مثالية وطوبائية. لا ينتقد “دوبريه” التنوير في ذاته من حيث هو ديناميكية فكرية واجتماعية، بل يكشف عن أمراضه واختلالاته الراهنة، مثل المغالاة في العقلانية الإجرائية التي تتوهم قدرة الإنسان على الاستغناء عن الرموز والطقوس والمقدسات التي هي مقوم لُحمة المجتمعات وتماسكها، واختزال التنوير في الشعارات السياسية بما يعزز نزعات التوسع، والتعصب والإقصاء الثقافي. الخلاصة التي يصل إليها هي ضرورة النظرة المركبة لتركة التنوير في تنوعها وتعدديتها، مبينًا أنها وإن كانت في المنطلق تنم عن توجه تحرري نقدي، إلا أنها وظفت على عكس مقاصدها الأصلية، فغدت أيديولوجيا لتبرير الاستغلال، والمركزية والتعصب الأيديولوجي.

بالرجوع للتجربة العربية، في ضوء ملاحظات “تودوروف” و”رجيس دوبريه”، يمكن القول إن الخطاب العربي المعاصر لم يستوعب قيم التنوير، وإن غدت شعارات التقدم والعقلانية النقدية من التوجهات الثابتة في الفكر الفلسفي والاجتماعي في السياق العربي.

لقد غابت عن هذا الخطاب إشكاليات أساسية في استيعاب تركة التنوير هي: إشكالية العقلانية في بعديها التحرري النقدي والوثوقي الدوغمائي، وإشكالية التطور العلمي في منحييه الناجع النافع من جهة والمدمر الاستلابي من جهة أخرى، وإشكالية الكونية الإنسانية في سمتها المجردة التي قد تفضي إلى المركزية الإقصائية وسمتها العينية التي قد تسمح بالتواصل الثري بين الثقافات والمجتمعات.
وبعبارة أخرى، تعامل الفكر العربي في الغالب مع تركة التنوير من حيث كونها مدونة أيديولوجية توظف في الصراع السياسي اليومي دون النظر إليها بصفتها أفقًا للتحول التاريخي.

وهكذا؛ غابت الأسئلة الجوهرية التي شغلت فلاسفة الأنوار منذ القرن الثامن عشر، مثل سؤال علاقة العقل بالطبيعة والتقليد، وإشكالية التحول التاريخي وأثره على الوعي الفردي والجماعي، وسؤال العلاقة بين الدولة الوطنية الحديثة والرابطة الإنسانية الكونية.

إن توجيه النظر إلى هذه الإشكالات المحورية هو الذي سيسمح لنا بالتفكير في ديناميكية التنوير في مقوماتها النظرية والعملية الأساسية، بدلًا من اختزالها في شعارات ومستنسخات أيديولوجية تطرح من الأسئلة أكثر مما تقدم من إجابات مرضية ومقبولة.