بقلم ماريا مارياني
بعد تشرين الأول/أكتوبر 2023، أدى القصف الإسرائيلي للبنان في ظل الإبادة الجماعية التي تُمارس ضد غزة إلى أزمة إنسانية أخرى ودمار واسع النطاق على الحدود جنوب لبنان، حيث أجبرت الاشتباكات العنيفة أكثر من مليون شخص على الفرار من منازلهم بسبب القصف المتواصل، ما أدى إلى موجة نزوح ممنهجة. ورغم سريان وقف إطلاق النار، ما يزال العديد من هؤلاء النازحين بعيدين عن ديارهم، إذ تُركت قرى كاملة في حالة خراب وغير صالحة للسكن. لم يتم الاعتراف بهؤلاء النازحين قانونيًا كما لم تُحدد استراتيجية واضحة لعودتهم، الأمر الذي خلّف الآلاف منهم في حالة من عدم اليقين وهي الحالة التي تتفاقم جراء الوجود العسكري الإسرائيلي المستمر في الجنوب، وانتهاكات وقف إطلاق النار المتكررة.
تسعى هذه المدونة إلى تسليط الضوء على الطرق التي أدت بها عمليات الإخلاء القسري منذ عام 2023 إلى نفي فعلي للكثير من الأشخاص خارج جنوب لبنان. وبينما تطلق السلطات الإسرائيلية على هذه التحركات اسم “عمليات إخلاء” مُصممة لأغراض السلامة مع امتدادها لفترة مؤقتة، يكشف الواقع الجلي عن انتهاك صارخ للقانون الدولي، حيث أُجبر المدنيون على النزوح من منازلهم دون أي سبيل مُجدٍ نحو استعادة حياتهم، ليصبحوا ضحايا حملة طرد مُمنهجة من أراضيهم وممتلكاتهم.
ومع ذلك، واجه لبنان في الماضي أزمات دورية من النزوح الداخلي، نجمت عن عدة صراعات مثل الحرب الأهلية اللبنانية والحروب الإسرائيلية اللاحقة على لبنان، بالإضافة إلى انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020، الذي شرد حوالي 300 ألف شخص. وللأسف، لم تكن استجابات الحكومة اللبنانية كافية في معظمها حيال هذه المسائل، فقد ساهم عدم الاعتراف القانوني بالنازحين داخليًا، سواء أكانوا مواطنين لبنانيين أم لاجئين من سوريا وفلسطين، في تطبيع نزوحهم “المؤقت”، ليصبح العديد منهم محاصرين في رواية مطولة من الإهمال والتهميش، دون خيار العودة إلى أماكنهم، أو استعادة ممتلكاتهم أو الاندماج في مجتمعات جديدة. وقد أدت العوائق التي تحول دون هذا الاعتراف القانوني، والقيود الاقتصادية والمخاوف الأمنية إلى تحويل تجربتهم في النزوح القسري إلى حالة من المنفى الدائم.
يحظر القانون الإنساني الدولي، ولا سيما المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، النقل القسري للمدنيين إلا في ظروف محددة، وعندما يكون مثل ذلك الإجراء ضروريًا جدًا لأمنهم وفي ظل حالات خاصة. كما ينبغي أن يكون هذا النزوح مؤقتًا، مع ضمان حق العودة. كما تؤكد مبادئ “بينهيرو” بشأن رد المساكن والممتلكات على أن للنازحين الحق في استعادة ممتلكاتهم أو الحصول على تعويض مناسب. ومع ذلك، يفتقر لبنان إلى إطار قانوني وطني لمعالجة هذه الحقوق، ما يترك الكثيرين دون اعتراف بوضعهم، أو تعويض أو دعم. وعلى الرغم من هذه التحديات، أظهرت المجتمعات النازحة صمودًا ملحوظًا، وشكلت شبكات دعم قوية. وغالبًا ما يجتمع الجيران وأفراد الأسرة لمشاركة الموارد من أجل تحقيق التضامن وتقديم المساعدة المتبادلة فيما بينهم. وتسد المنظمات الدينية والمجتمعية المحلية الثغرات التي خلفها تقصير الحكومة، مقدمةً دعمًا حيويًا للمحتاجين إليه. ومع ذلك، فما تزال جهود إعادة الإعمار تعاني من إعاقتها سياسيًا إلى جانب كونها جهودَا مفكّكة تعاني التجزئة.
__________
1. Lebanon Humanitarian Fund Annual Report 2024 | OCHA
3.https://academic.oup.com/jrs/article/37/1/201/7329166
4.https://ihl-databases.icrc.org/en/ihl-treaties/gciv-1949/article-49
6.https://journals.sagepub.com/eprint/ZHN3E4SSPIN4BIITKUU5/full
التوصيات
ينبغي أن يُعالج إطار قانوني يمتاز بمزيد من الصرامة احتياجات النازحين داخليًا الفورية، وأن يُرسي أيضًا أسس حلول طويلة الأجل تُعزز كرامة النازحين، واستقرارهم وقدرتهم على الصمود. ولمعالجة أزمة النزوح القسري في لبنان بفعالية، ينبغي دعم التوصيات التالية وتنفيذها للاعتراف بحقوق النازحين داخليًا وتسهيل عودتهم:
الالتزام الدولي بالضغط على إسرائيل وضمان انسحابها من جنوب لبنان، وإنهاء جميع أعمال العنف التي تُزعزع سلامة سكان المنطقة وحقوقهم: يجب أن يشمل هذا الالتزام بتسهيل الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان وقف العمليات العسكرية وحماية السكان المحليين وسلامتهم، بما يضمن عودة المدنيين والعيش دون تهديد من الاحتلال أو وقوع مزيد من الصراع. وحتى الآن، لعبت قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل) دورًا هامًا في مراقبة الوضع والحفاظ على منطقة عازلة منزوعة السلاح. ومع ذلك، فإن تصويت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على إنهاء وجودها بحلول نهاية العام المقبل يُلقي بظلاله على انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي ذات السيادة اللبنانية.
وضع إطار والتزامات ملزمة قانونًا: تشجيع لبنان على المصادقة على الاتفاقيات الدولية ذات الصلة التي تحمي حقوق النازحين والالتزام بها، ما يعزز التزامه القانوني ومساءلته. وينبغي الاعتراف بحقوق النازحين وصونها، استنادًا إلى المعايير الدولية لحقوق الإنسان والقانون الإنساني، بما في ذلك حق العودة والتعويض عن الممتلكات المفقودة، بالإضافة إلى مبادئ “بينهيرو” بشأن رد المساكن والممتلكات.
وضع سياسات واضحة للعودة: صياغة سياسات تُحدد عملية عودة النازحين داخليًا إلى ديارهم وتنفيذها، بما في ذلك تقييمات السلامة وإعادة الخدمات في المناطق المتضررة، إضافة إلى وضع برامج إعادة إدماج تُوفر الدعم اللازم للأشخاص للنازحين داخليًا، مع ضمان تكافؤ فرص الحصول على الخدمات وفرص العمل والمزايا الاجتماعية، دون تمييز بين المواطنين اللبنانيين ومجتمعات اللاجئين.
تطبيق آليات المساءلة والتعويضات: إنشاء هيئات مستقلة لرصد أوضاع النازحين داخليًا، وضمان الامتثال للقوانين الوطنية والمعايير الدولية. وضع أنظمة تحمي حقوق الملكية وتعاقب من يعيق عودة أولئك الأشخاص عن طريق الاحتلال العسكري أو التقاعس السياسي، وتوفير قنوات للنازحين داخليًا للإبلاغ عن انتهاكات حقوقهم، مع ضمان السرية والحماية من الانتقام.
دعم صمود المجتمع: الاستثمار في المبادرات المحلية التي تعزز التضامن المجتمعي، وتمكين النازحين من مشاركة الموارد وإعادة بناء حياتهم، مع إشراك المجتمعات النازحة في عمليات صنع القرار المتعلقة بالسياسات والبرامج التي تؤثر عليها، وضمان سماع أصواتهم وأخذها في الاعتبار، إلى جانب تيسير الحوار بين النازحين والسلطات المحلية.
تعزيز المشاركة الدولية: ضمان تخصيص تمويل كافٍ للبرامج التي تهدف إلى دعم النازحين داخليًا، بما في ذلك مبادرات إعادة الإعمار الشاملة، والرعاية الصحية، والتعليم، وسبل العيش، مع تحويل الاستجابة الدولية من مجرد تقديم المساعدات الإنسانية إلى الدعوة إلى إيجاد حلول قانونية وسياسية تعالج أسباب النزوح الجذرية.
ومن خلال تنفيذ هذه التوصيات، يغدو في مقدورنا العمل نحو مستقبل أكثر عدلًا وإنصافًا للنازحين في لبنان، وتمكينهم من المطالبة بحقوقهم واستعادة حياتهم.