في كتابه الصادر سنة 1923 بعنوان “فلسفة الأنوار”، يقدم لنا الفيلسوف الألماني “إرنست كاسيرر” قراءة شاملة في تيارات التنوير الأوروبي من منظور مركزية العقل في فهم وتنظيم وتغيير العالم. ما يميز حركية التنوير حسب “كاسيرر” هو أنها قدمت منظورا عمليًا وإجرائيًا للعقل لا يكتفي بمحض النظر البرهاني الموضوعي، بل يتجاوزه إلى هدف بناء نظام عقلاني متكامل للمجتمع، يحرره من الخرافة والجمود، ويفتح له آفاق التحول التاريخي، والانعتاق السياسي والأخلاقي.
ما يجمع بين فلاسفة الأنوار هو هذه الوظيفة الأخلاقية والسياسية للعقل التي تتجسد في مواقف ملتزمة في الحقول العلمية والقانونية والاجتماعية، وتتكرس في غائية التحرر والاستقلالية التي هي السمة الغالبة على مفكري التنوير الأوروبي.
ومن هنا طغيان قيم التقدم والإصلاح والتحرر والكرامة الإنسانية، التي تفضي إلى بلورة نظرة تاريخانية متفائلة لمستقبل النوع الإنساني.
لقد كان “كاسيرر” وفيًا في كتابه الذي صدر ما بين الحربين لمثال التنوير الذي اعتبر أنه المسلك الوحيد إلى تقدم البشرية وتحررها.
بيد أن الحرب العالمية الثانية غيرت نوعيًا هذا الحلم المتفائل، وأناطت اللثام عن الوجوه المظلمة من حركية التنوير، بما نلمسه بوضوح في كتاب رائدي مدرسة فرانكفورت “تيودور أدورنو” و”ماكس هوركهايمر” بعنوان “جدل التنوير” الصادر سنة 1944. الأطروحة التي ينطلق منها هذا الكتاب تتمثل في القول إن ديناميكية الأنوار وان انطلقت من هدف التحرر الاجتماعي، إلا أنها اتسمت بطابع إشكالي يبرز في كونها أفضت في الغالب إلى تكريس الوضع المعاكس من غايتها الأصلية. فالعقل الذي كان يُراد منه تحرير الإنسان، أفضى في نهاية المطاف إلى إنتاج أشكال جديدة من الهيمنة والقمع باسم العقل ذاته، ومن خلال منتجه العلمي والتقني، والنظرة الموضوعية التجريبية التي يتأسس عليها.
لقد أصبح العقل الحديث “أداتيًا”، يتسم بسمات التكميم الحسابي، والمنطق النفعي والبحث عن النجاعة والتحكم، فلا مجال فيه للغايات العليا، بل إن مداره هو مجرد الوسائل العملية الإجرائية.
فإذا كان هدف فلاسفة التنوير الأوائل سيطرة الإنسان على الطبيعة من حيث هي وجه من وجوه سيادته وتحرره، فإن هذا الهدف قد تحول في الواقع إلى تكريس السيطرة على الإنسان نفسه، بما يتجلى في ظواهر معاصرة خطيرة من قبيل: طغيان السُّلط التكنوقراطية والبيروقراطية، واستفحال الاستغلال الاقتصادي وتنميط المسلكيات الاجتماعية. ومن النتائج الأيديولوجية لهذه الحركية المضادة بروز النزعات الفاشية والنازية القائمة على تحويل المجتمع إلى كتل هلامية، وفرض الطاعة العمياء للأجهزة البيروقراطية التقنية.
من هذا المنظور، يربط المؤلفان بين اختلالات حركية التنوير وتطور المجتمعات الرأسمالية الفردية التي تكرس أبشع أنواع الغبن والاستغلال الطبقي.
في الجيل الثاني من مدرسة فرانكفورت الذي نشر أعماله منذ سبعينيات القرن الماضي، اختفت هذه النزعة النقدية الراديكالية المتشائمة، بما نلمسه في كتابات الفيلسوف الألماني “يورغن هابرماس” الذي دافع عن مشروع التنوير في مواجهة تيارات ما بعد الحداثة ذات الجذور النيتشوية الهايدغرية.
لقد اعتبر “هابرماس” أن مشروع التنوير لم يكتمل، ولا يزال أفقًا مفتوحًا قادرًا على تحقيق تطلعاته، وفي مقدمتها تحرير الإنسان من السُّلط الطبيعية والاجتماعية المتحكمة فيه.
إلا أن “هابرماس” يوافق الجيل الأول من فلاسفة مدرسة فرانكفورت في نقد العقل الأداتي المحكوم بمنطق النجاعة والهيمنة والمنفعة، طارحًا العقل التواصلي بديلًا عنه، ويعني به الفاعلية اللغوية النقاشية التي تنزع إلى الحوار، والفهم والتداول العمومي الحر.
فبالنسبة له، يجب إحياء مشروع الأنوار لا من حيث هو مسار علمي تقني، وإنما باعتباره موجهًا بمطلب بناء فضاء عقلاني عمومي يساهم فيه مواطنون من خلفيات ثقافية واجتماعية متعددة على أساس برهاني حر، ومن ثم طابعه الديمقراطي الجوهري.
لا ينكر “هابرماس” أن حركية التنوير الحديث عانت من أعراض مرضية واختلالات عديدة، من بينها “استعمار العالم المعيش” المتولد عن طغيان العقلانية التقنية الاستهلاكية والفردية الأنانية، ولكن هذه العيوب لا تتعلق بديناميكية الأنوار نفسها الموجهة بقيم الحرية والكرامة الإنسانية. ولذا، فإنه يتوجب استكمال مسار التنوير من خلال توطيد الديمقراطية التداولية القائمة على الفعل التواصلي الحر والنقاش العمومي المفتوح.
لقد دخلت الأفكار النقدية للتنوير متأخرة إلى الفكر العربي الذي تحمس في الحقبة الإصلاحية لقيم الحرية، والتقدم، والإصلاح الاجتماعي والثورات السياسية الديمقراطية.
وهكذا، سلكت نقدية التنوير في الفكر العربي مسلكين أساسيين هما: الاتجاهات التفكيكية على الطريقة الفرنسية التي نزعت إلى الكشف عن العلاقات المتشابكة بين المعرفة والسلطة، والعقل والرقابة، والقانون والعقوبة، بما نلمسه أساسًا في كتابات “ميشال فوكو” و”جيل دلوز” و”جاك دريدا” التي وجدت صدى واسعًا في أعمال كتّاب المغرب العربي منذ ثمانينيات القرن الماضي، والنقد الماركسي المتأثر بمدرسة فرانكفورت، ثم أعمال “توني نغري” و”مايكل هاردت” في ربطه الجذري بين حركية التنوير والظاهرة الرأسمالية المعاصرة.
منذ التسعينيات، بدأنا نقرأ لكتاب عرب بارزين في نقد التقدم والنزعة الإنسانية والالتزام، من منظور هجومي على أفكار التنوير التي استأثرت باهتمام الإصلاحيين والحداثيين العرب في بدايات ومنتصف القرن العشرين.
وبطبيعة الأمر، يختلف كليًا سياق النقد العربي للتنوير عن السياق الأوروبي، باعتبار أن العرب لم يجربوا حركية الأنوار فلسفيًا وتاريخيًا. ولذا، فإن نقدها كان مجرد استنساخ ميكانيكي للكتابات الأوروبية التي تترجم مناخًا نظريًا وفكريًا مغايرًا ومختلفًا عن الواقع العربي.
بعد موجة الربيع العربي الأخيرة، سألت أحد أبرز المفكرين العرب من المشتغلين بالأبحاث الفلسفية: هل نحن بحاجة اليوم إلى تنويرية “كانط” و”روسو” من أجل بناء عقلانية تحررية مجتمعية؟ أم نحن بحاجة إلى نقدية الأنوار التي ترتد في نهاية المطاف إلى تشريع الفوضوية، والانطباعية والتسلط، وهي الأمراض التي تنخر المجتمع العربي وتمنعه من التقدم والتحرر؟
الإجابة لا تحتاج لتعليق مسهب، ولقد بينت التطورات اللاحقة أن البديل عن التنوير هو التعصب الأيديولوجي، والتفكك الاجتماعي وانهيار البناء السياسي المركزي.