بقلم: جوليا م. ميناسيان، متدربة في مركز النهضة الاستراتيجي
“لن يتكرر هذا ثانية” هو وعدٌ يُجدده المجتمع الدولي في التاسع من كانون الأول/ديسمبر من كل عام، وتحديدًا في “اليوم الدولي لإحياء وتكريم ضحايا جرائم الإبادة الجماعية ومنع هذه الجريمة”. وقد أُقرّ هذا اليوم بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 69/323، ويتزامن مع اعتماد اتفاقية عام 1948 بشأن منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وهي أول معاهدة دولية ملزمة قانونًا في مجال حقوق الإنسان. وفي اليوم التالي، أي العاشر من كانون الأول/ديسمبر، يُحتفل بيوم حقوق الإنسان، إحياءً لذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ويُؤكد الاحتفال بهذين اليومين على التوالي على حقيقة ارتباط منع الإبادة الجماعية ارتباطًا وثيقًا بحماية حقوق الإنسان الأساسية.
وتُعرّف اتفاقية عام 1948 بشأن الإبادة الجماعية بأنها تعني “أيًا من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية”، بما في ذلك “إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا”. كما يوضح إطار الأمم المتحدة لتحليل الجرائم الفظيعة، فإن هذه الظروف تمثل أنماطًا تراكمية من انتهاكات حقوق الإنسانية المنهجية. ولذلك، ينبغي فهم الإبادة الجماعية على أنها عملية هيكلية ومنهجية لا بوصفها حدثًا معزولًا، وهي التي تتكشف حاليًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فعلى مدى عقود قبل تشرين الأول/أكتوبر 2023، عاش الشعب الفلسطيني في ظل أنظمة متعددة الطبقات من الاحتلال القانوني والمادي. وقد شكل الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة منذ عام 2007 جملة تحديات تعرقل حرية الفلسطينيين في التنقل ووصولهم إلى الخدمات الأساسية، بما في ذلك الغذاء، والماء والإمدادات الطبية. علاوة على ذلك، ساهم الاحتلال العسكري للضفة الغربية، إلى جانب الاستيطان غير القانوني والتهجير القسري، على نحو مستمر في انتهاكات حقوق الإنسان. من جهة أخرى، فقد أرست هذه الظروف الهيكلية، التي وصفها المقرر الخاص للأمم المتحدة بأنها “نظام مؤسسي للقمع والتمييز العنصريين المنهجيين”، أساس الهجمات العسكرية التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.
أدى تصاعد العنف خلال العامين الماضيين إلى تفاقم الأضرار التي تلحق بالمدنيين. فمنذ تشرين الأول/أكتوبر2023، قُتل أكثر من 65 ألف فلسطيني، وأُصيب ما يزيد عن 167 ألفًا. ويواجه نحو 90% من سكان غزة (حوالي 1.9 مليون نسمة) خطر النزوح القسري، بينما دُمّرت 80% من البنية التحتية المدنية، بما في ذلك المدارس، والمستشفيات وشبكات المياه. علاوة على ذلك، يستهدف العنف الممارس ضد الفلسطينيين بقاءهم على وجه الخصوص. فضلًا عن ذلك، يمثل العنف الإنجابي تحديدًا شكلًا من أشكال التهميش القائم على الفروقات بين الجنسين، إذ تعيش أكثر من 150 ألف امرأة حامل ومرضعة دون رعاية صحية أساسية، بينما ارتفعت حالات الإجهاض بنسبة 300% منذ تشرين الأول/أكتوبر2023. وتُعدّ حرب إسرائيل على التعليم الفلسطيني استراتيجية أخرى من استراتيجيات تقويض حقوق الفلسطينيين الأساسية من إغلاق الجامعات، وتجريم التدريس، ومنع الطلاب من السفر، وحرق السجلات المؤرشفة، بما وصل الآن إلى حد تفكيك النظام التعليمي في غزة بالكامل (إذ دُمّرت 80% من مدارس غزة، وتضرّرت 97% من المنشآت التعليمية). ليست هذه الإجراءات بجديدة، بل هي استمرار لسياسة طويلة الأمد من العنف والتدمير الممنهج، الهادفة إلى طمس الثقافة وتخريب مستقبل السكان.
وشكّل تدمير المساعدات الإنسانية عن عمد مصدر قلق بالغ آخر. فبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، منعت إسرائيل دخول 6480 طنًا متريًا من المساعدات الإنسانية إلى غزة بين شهري تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2023 فقط، بينما أدى الحصار المفروض على غزة في آذار/مارس 2025 إلى إغلاق المعابر الحدودية واستمرار تقليص الإمدادات الإنسانية. علاوة على ذلك، يشير قضاة وباحثون دوليون إلى تصريحات مرتكبي العنف ضد الفلسطينيين باعتبارها دليلًا على نواياهم. فقد صرّح نسيم فاتوري، نائب رئيس الكنيست الإسرائيلي، قائلاً: “لدينا جميعًا الآن هدف واحد مشترك، وهو محو قطاع غزة من على وجه الأرض”. إن هذا الخطاب، إلى جانب الواقع الملموس، بما في ذلك النزوح الجماعي، والحرمان من الخدمات الأساسية، وتدمير البنية التحتية المدنية، وفرض ظروف معيشية لا تتوافق مع بقاء الإنسان على قيد الحياة، يفي بالعديد من المعايير المنصوص عليها في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
في كانون الأول/ديسمبر 2023، رفعت جنوب أفريقيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية، مدعيةً فيها أن إسرائيل انتهكت التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. ورغم عدم بت المحكمة في جوهر دعوى الإبادة الجماعية في المرحلة المؤقتة، فقد خلصت إلى أن حقوق الفلسطينيين في الحماية بموجب الاتفاقيات الدولية عرضة للخطر. وفرضت محكمة العدل الدولية تدابير مؤقتة تلزم إسرائيل بمنع الأعمال التي قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، والتحقيق في التحريض. كما يلزم القانون الدولي الإنساني الدول المحتلة بحماية أرواح المدنيين وضمان استمرار وصول الخدمات الأساسية. ومع ذلك، فقد أخفقت إسرائيل مرارًا وتكرارًا في الامتثال لأحكام محكمة العدل الدولية وواجباتها بوصفها دولة احتلال بموجب القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان، على الرغم من وقف إطلاق النار الأخير.
وقد فاقم التقاعس السياسي الأزمة. فمنذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، تعرضت قرارات عديدة صادرة عن مجلس الأمن الدولي بهدف حماية المدنيين الفلسطينيين للفشل بسبب استخدام دول قوية حق النقض (الفيتو). كما يرسخ هذا الشلل الإفلات من العقاب، ويشير إلى اتجاه عالمي أوسع نطاقًا تطغى فيه مصالح الدول القوية السياسية على الالتزامات القانونية. ونتيجة لذلك، يميل الفاعلون الدوليون إلى اللامبالاة والمشاركة الانتقائية، في الوقت الذي يسمح فيه إفلات الجناة من العقاب، بالإضافة إلى غياب المساءلة، باستمرار الفظائع الجماعية دون رادع. ويقدم القرن العشرون أمثلة عديدة على هذا الاتجاه، من المحرقة النازية إلى الإبادات الجماعية في أرمينيا ورواندا.
واستجابةً لهذه الأحداث الماضية، جرى وضع أطر قانونية واعتمادها سعيًا إلى ترسيخ مسؤولية الدول ومنع تصعيد العنف. وعلى وجه الخصوص، تنصّ “مسؤولية الحماية” (R2P)، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع، على أن الدول ملزمة بحماية سكانها من الجرائم الفظيعة. كما يُلزم هذا الإطار المجتمع الدولي باتخاذ إجراءات جماعية عند عجز السلطات الوطنية عن ذلك. ومع ذلك، ورغم وجود مؤشرات تحذيرية واضحة ومعايير لا لبس فيها، يبقى المجتمع الدولي غير مبالٍ، ومشتت الذهن، وصامتًا حيال ما يجري.
في المقابل، يسعى المجتمع المدني إلى إحداث تغيير، بما يسد الثغرات السياسية والدبلوماسية في العمل العالمي. فبينما يوثّق الأفراد والمدافعون عن حقوق الإنسان والمنظمات الشعبية الانتهاكات، فإنهم يدعمون أيضًا الجهود الإنسانية ويحشدون اهتمام العالم. كثيرًا ما لعب النضال دورًا هامًا في مطالبة الحكومات بالمساءلة، وتعكس الاحتجاجات الجماهيرية من أجل فلسطين حركة عابرة للحدود متنامية للمطالبة بالمساءلة. لذا، تُعدّ المشاركة العامة شكلًا حاسمًا من أشكال المقاومة التي في مقدورها التأثير في تبنّي معايير حقوق الإنسان والدفع باتجاه تغيير السياسات على المدى البعيد.
عمومًا، تتداخل حقوق الإنسان بعمق في حياتنا اليومية، فحقوقنا أساسية بالنسبة لنا إلى حد أننا قد لا نلاحظها إلا عند انتهاكها. يعتمد منع الإبادة الجماعية على مواجهة التآكل التدريجي الذي يلحق بحقوق الإنسان، والتمييز المنهجي والمستمر، والإفلات من العقاب، بصورة حازمة. إذا ما كان الهدف من إحياء يومي التاسع والعاشر من كانون الأول/ديسمبر هو تكريم ضحايا الفظائع الماضية، فإن هذا الإحياء يحث أيضًا على اتخاذ إجراءات فعّالة عند مواجهة العنف في وقتنا هذا. لا يمكن أن يبقى شعار “لن يتكرر ثانية” مجرد تصريح يُطلق بعد وقوع الأحداث، بل يجب أن يكون بمثابة واجب حاضر، يوجه السياسات والمسؤولية الجماعية أينما تعرّضت المجتمعات لأذى يهدد وجودها.