في سنة 1784، طرحت “مجلة برلين الشهرية” (Berlinische Monatsschrift ) سؤالًا على فلاسفة ألمانيا وقتها حول “ما هو التنوير؟”، وقد رد عليها فيلسوفان من أهم مفكري ذلك العصر هما “أمانويل كانط” و”موسى مندلسون”.
مقالة “كانط” التي حملت عنوان “ما هي الأنوار؟” تنطلق من التعريف الشهير لهذا المفهوم المحوري في مسار الحداثة الأوروبية: “إنها خروج الإنسان من وضعية الوصاية التي هو مسؤول عنها”. الأمر هنا لا يتعلق بالذكاء والعقل، وإنما بشجاعة استخدام الفكر، ولذا، فإن شعار التنوير حسب كانط هو “استخدم عقلك الخاص بشجاعة”.
ومن هنا، ندرك محورية العقلانية في فلسفة التنوير، من منطلق التمييز بين الاستخدام الشخصي للعقل الذي لا يخلو من سلطة معرفية ضاغطة، والاستخدام العمومي للعقل الذي هو السمة الجديدة للإنسان من حيث هو مواطن كوني، يساهم بإيجابية في معالجة قضايا عصره من منظور برهاني نقدي. العقلانية هنا لا تنفصل عن الحرية، أي حرية الوعي والفكر ضمن نظم مؤسسية اجتماعية تكفل حق التعبير والتداول الجماعي، بما يضمن تقدم البشرية ورشدها. ولقد اعتبر “ميشال فوكو” أن نص “كانط” يؤسس لتوجه جديد في الفلسفة أطلق عليه “فلسفة الحاضر” التي لا تتناول موضوع المعرفة، وإنما وضع الإنسان الحالي في سياقه التاريخي الحي (الأنطولوجيا النقدية للذات).
فحركية التنوير تنزع أساسًا إلى نقد السلط المهيمنة على الوعي من كنائس وأنظمة سياسية، كما تفسح المجال أمام التفكير النقدي في السياقات المجتمعية وذلك هو دلالة الالتزام الأخلاقي والمعرفي المواكب لديناميكية الأنوار.
لقد عرف “كانط” بنقده الجذري للميتافيزيقا بصفتها معرفة مستحيلة بالوجود لخروجها عن نطاق التجربة، لكنه في نقده للعقل العملي دافع عن فكرة الحرية والاستقلالية التي هي شرط أي فعل أخلاقي، كما دافع في كتابه “الدين في حدود مجرد العقل” عن الإيمان الحر الذي يتلاءم مع العقلانية الأخلاقية الكونية بصفتها المضمون الحقيقي للتنوير.
أما نص الفيلسوف اليهودي “مندلسون”، فيحمل عنوان “ماذا يعني التنوير؟”، وقد ذهب إلى نفس الموقف الكانطي في الدفاع عن الاستخدام الحر للعقل، مع الحرص على احترام التنوع الديني.
التنوير بالنسبة له يقتضي المعرفة العقلانية البرهانية، وحياد الدولة تجاه كل الأديان وعدم تدخل الديانات في الشأن السياسي. لكن “مندلسون” كان حذرًا في تصور تقدم البشرية الذي لا يعني بالنسبة له بالضرورة الانخراط في الزمنية التاريخية الراهنة، بل لا بد له من مراعاة التوفيق بين المعرفة العقلانية والأخلاق الفاضلة، التي هي أساس الممارسة الدينية.
في هذا السياق، يميز “مندلسون” بين ثلاثة أبعاد متمايزة في الحياة الإنسانية: الأنوار بمضمونها العقلاني النقدي، والثقافة التي تتعلق بالملكات الفنية والعلمية التي تحتاج للتمرن والتدريب والتكوين المستمر، والحضارة التي هي مجال الأخلاق والقيم الاجتماعية.
ومن ثم، لا يكفي التنوير ذاته في تحقيق التقدم البشري باعتبار تعدد جوانبه ومقوماته التي لا تنحصر في الأبعاد العلمية والمعرفية.
يمثل “مندلسون” التيار الذي سمي لاحقًا باليهودية الليبرالية التي تتبنى أفكار التسامح، وحرية التفكير والحوار بين الديانات، وتعتمد مقاربة المجال العمومي المفتوح التي سيطرت على نطاق واسع في الفكر السياسي والاجتماعي المعاصر.
لقد عاصر “يوهان جوتفريد هردر” الفيلسوفين السابقين، ووافقهما في التشبث بقيم العقلانية والتربية الفكرية الحرة، لكنه رفض مقولة العقل الكوني التي تبلورت بقوة في فكر الأنوار، معتبرًا أن لكل شعب ثقافته، وتاريخيته الخاصة وروحه القومية. ومن ثم رأى “هردر” أن لكل أمة مسلكًا خاصًا بها للتقدم وفق نسقها الثقافي وخصوصياتها الحضارية. لقد وضع “هردر” منطلقات ما عرف من بعد بالنزعة التاريخانية الثقافية، بديلًا عن التنوير العقلاني المجرد الذي طبع فلسفة الأنوار التقليدية.
من خلال الوقوف عند الفلاسفة الثلاثة الذين فكروا في مفهوم التنوير وأرادوا فهم ديناميكية عصرهم الذي سمي بعصر الأنوار، يمكن أن نستنتج ثلاث ملاحظات كبرى:
أولًا: أن العقلانية التنويرية اختلفت في دلالتها وخلفياتها عن عقلانية الفلسفة الحديثة في نسختها الديكارتية السبينوزية التي قلصت الممارسة العقلانية في التمثل البرهاني وفق مبدأ الفكرة الموضوعية المتلائمة مع الواقع، ولقد أصبح للعقل وظيفة نقدية واجتماعية ملتزمة، تتركز في نقد المؤسسات المهيمنة على الوعي والتفكير.
ثانيًا: تحتل التربية والسياسة مكانة هامة في ديناميكية التنوير التي تطمح من جهة إلى إعادة تشكيل العقل الإنساني من خلال تثبيت ونشر الأفكار التحررية النقدية، ومن جهة أخرى تحميل الدولة مسؤولية خاصة في غائية الاستخدام العمومي الحر للعقل.
ثالثًا: طرح فكر الأنوار مبكرًا إشكالية العلاقة المعقدة بين العقلانية الإجرائية النقدية، والقيم الجماعية المدنية المتجسدة في أشكال تاريخية قومية، وسيصبح هذا الإشكال محورًا ثابتًا في الفكر المعاصر في القرنين التاسع عشر والعشرين.
من نافل القول إن الفكر العربي المعاصر احتك بديناميكية التنوير في إطار سياق مختلف هو سياق العلاقة بين التجربة التاريخية للمجتمعات العربية المسلمة في أوج انحطاطها وجمودها، والمجتمعات المعاصرة التي وصلت إلى مستويات متقدمة من النهوض الفكري والتقدم العلمي والاجتماعي.
لقد اختزل بالتالي سؤال التنوير في مطلب “التقدم”، الذي أطلق عليه في الأدبيات الإصلاحية مفهوم “التمدن” الذي يعني الأخذ بأسباب القوة التقنية والمؤسسية، دون مراعاة الإشكالات الجذرية ذات الصلة بالفاعلية العقلانية النقدية التي شغلت اهتمام فلاسفة الأنوار الأوروبية.
وبعبارة أخرى، لم يكتشف الفكر العربي فلسفة الأنوار إلا عبر نقديتها التاريخانية الرومنطيقية التي ولدت التيارات والاتجاهات الأيديولوجية القومية في حربها المعلنة على العقلانية الكونية والتقدم التقني المنفصل عن الهويات والقيم الأخلاقية. وهكذا ظلت إشكالية التنوير الفلسفي غائبة عن الفكر العربي، رغم تشبثه بأفكار التقدم والحرية من خارج سياقها النظري والتاريخي. لقد انتصر “هردر” على “كانط” و”مندلسون”، واختزلت العقلانية في النقدية المعرفية والأبستمولوجية بدلًا من الاستخدام العمومي للعقل الذي هو الوجه الآخر للحرية والتداول البرهاني الجماعي.