الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العرب والتنوير الراديكالي
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

التمييز بين التنوير الراديكالي والتنوير المعتدل يعود للمؤرخ البريطاني “جوناثان إسرائيل”، الذي أصدر سنة 2001 كتابًا مثيرًا بعنوان “التنوير الراديكالي: الفلسفة وصناعة الحداثة، 1650-1750″، وقد نشر من بعدُ عدة أعمال تدور في الاتجاه نفسه. في هذه الأعمال، يميز “إسرائيل” بين مقاربتين عرفتهما العصور الحديثة وهما التنوير الراديكالي الذي يمثله الفيلسوف الهولندي الشهير “سبينوزا”، والتنوير المعتدل الذي برز في فرنسا وبريطانيا ومن أهم رموزه “جون لوك” و”هيوم” و”فولتير” و”مونتسكيو”.

التنوير الراديكالي يقوم على أفكار المساواة المطلقة، والعقلانية المادية والعلمانية المعادية للدين. لقد ظهرت هذه الأفكار بقوة في كتابات “سبينوزا” الذي استبدل مقولة الطبيعة بالإله، وأسس تأويلية جديدة ترفض الوحي والرسالات المنزلة، كما أنه دافع عن حرية التفكير والتعبير في مواجهة المؤسسة الدينية الحارسة للإيمان الصحيح.

من المهم التنبيه هنا إلى أن قراءة “إسرائيل” لفلسفة “سبينوزا” تندرج في سياق الثورة التأويلية الكبرى التي دشنها الفيلسوف الفرنسي “جيل دلوز” في أعماله الرائدة حول “سبينوزا”. وقد تلاه المفكر الماركسي الإيطالي “توني نغري” في كتابه “الغرابة المتوحشة” (1979) الذي ركز على أنطولوجيا القوة والمحايثة لدى “سبينوزا” بما ينتج عنها من نبذ المطلقات المفارقة، والسُّلط المتعالية من إله، ودولة وقانون منزل. إلا أن “جوناثان إسرائيل” يرى في “سبينوزا” مؤسس التقليد الديمقراطي الجمهوري، بينما يرى “نغري” أنه يأبى أفكار السيادة القومية والتمثيل النيابي، ويؤسس الحرية على مثال الترابط بين ذاتيات فردية مستقلة (الجمهور مقابل الأمة بمفهومها التعاقدي المدني).

لن ندخل في مضمون الجدل الفلسفي الواسع حول أعمال سبينوزا، لكن مما لا شك فيه أنه تجاوز المنظور العقلاني الميكانيكي في فكر “ديكارت”، وبلور مقاربة جديدة في تأويلية النص الديني وفي الشرعية السياسية غدا لها تأثيرٌ واسعٌ في عصور الأنوار الأوروبية.

وكما يبيّن “جوناثان إسرائيل” في ثلاثيته حول التنوير وفي كتابه الأخير حول “سبينوزا”، أسس “سبينوزا” تقليدًا راديكاليًا داخل ديناميكية التنوير، من أبرز رموزه “بيار بايل”، و”دنيس ديدرو” و”نيكولاس كوندرسيه” وغيرهم، وكل هؤلاء سلكوا مسلكه في أفكار العقلانية المادية، ونبذ سلطة التأويل الديني، والدفاع عن حرية التعبير وتبني الديمقراطية الشعبية.

أما التنوير المعتدل الذي ظهر بقوة في اسكتلندا وفرنسا، فقد اتسم بالطابع التوفيقي والتلاؤم الإيجابي مع الدين والنظام السياسي. فلئن كان هذا التقليد تبنى العقلانية إلا أنه رفض المغالاة في استخدامها ضد الموروث العقدي والتواضعات الاجتماعية القائمة، كما اعتمد الموقف الرُّبوبي في الدين القائم على الإيمان بالإله من حيث هو مبدأ تفسير الطبيعة ومرجع الأخلاق بدلًا من الإلحاد اللاديني، وطالب بالإصلاح الديني ومواجهة شطط السلطة الكنسية بدلًا من الخروج الجذري عن عباءة الدين، وفي الجانب السياسي، طالب بالحريات المدنية، والتسامح الفكري، والمساواة الاجتماعية دون ثورات قطائعية راديكالية.

في ألمانيا وبريطانيا وفي الولايات المتحدة الأمريكية لاحقًا، نجح خط التنوير المعتدل في إحداث التحولات السياسية والمجتمعية المنشودة، بينما أفضى نظام الثورة الفرنسية إلى محاولة فرض التنوير الراديكالي، فكانت النتيجة هي لحظات عنف دموي قاتم واضطراب سياسي متواصل.

هل عرف العرب التنوير الراديكالي؟
إذا ربطنا هذه الحركية بكتابات فلسفة “سبينوزا”، أمكننا القول إنها لم تعرف عربيًا إلا في السنوات الأخيرة. فإذا استثنينا الأعمال الرائدة حول “سبينوزا” في تونس (بالفرنسية من تأليف فاطمة الحداد وعلي الشنوفي)، نجد أن أول كتاب صدر بالعربية حول “سبينوزا” كان من تأليف الفيلسوف المصري فؤاد زكريا سنة 1962، وهو على أهميته كان بالأساس كتابًا مدرسيًا تقليديًا استند على التأويلات الكلاسيكية التي ركزت على نظرية الوجود الأحادي عنده ونظام العقل والأهواء لديه، مع تناول منهجيته في تأويل النص الديني.

وفي سنة 1971، صدرت الطبعة الأولى من ترجمة حسن حنفي لرسالة “سبينوزا” في اللاهوت والسياسة مع مقدمة طويلة، لا شك في أنها حدث هام في الحقل الفكري العربي. في تقديم حنفي وترجمته الواضحة، تركيز على نظرية تأويل النص الديني ونقد الموروث اللاهوتي، في أفق استنبات منهجية جديدة في قراءة الكتابات المقدسة، بما سيشغل من بعد حسن حنفي في مشروعه لإعادة بناء علوم الإسلام.
وفي السنوات الأخيرة، ترجمت بقية أعمال “سبينوزا” وبصفة خاصة كتابه الأساسي “الأخلاق”، كما كتبت عدة دراسات عنه من منظور التأويلات الجديدة التي قدمها “دلوز” و”نغري” و”إسرائيل” (صالح مصباح، وجلال الدين سعيد، وأحمد العلمي، وغيرهم).

إلا أن هذه الجهود لم تفض إلى توطيد حركية تنوير راديكالي في العالم العربي، على أساس مشروع “سبينوزا”. وإذا تركنا جانبًا أعمال الجيل الأول من الحداثيين الليبراليين الوضعيين من قبيل “سلامة موسى” و”شبلي شميل” و”فرح أنطون” وغيرهم، فإننا نلمس أن حركية التنوير العربية تندرج أساسًا في التقليد المعتدل الذي تحدث عنه “جوناثان إسرائيل”.

لقد تبنى الفكر النهضوي العربي منذ بدايات القرن العشرين قيم العقلانية، والحرية، والتسامح والدولة المدنية، إلى آخره. لكن ضمن منظور تصالحي إجمالًا مع التراث والتقليد الديني. وهكذا، تم مبكرًا الاحتفاء بعقلانية “ديكارت” المنهجية بدلًا من طبيعانية “سبينوزا”، ودافع مفكرو الإصلاحية العربية عن نظريات التعاقد الاجتماعي والحرية المدنية خارج المقاييس العلمانية الراديكالية، وجرى احتواء التأويلية النصية في إطار الهرمنوطيقا التجديدية.

تساءل مرة المفكر الراحل محمد أركون عن سر الأفق التصالحي المحافظ في التنويرية العربية التي رفضت بشدة التصورات الوضعية والنقدية في مقاربة الدين والتقليد التراثي. وقد خلص إلى أن هذه التنويرية اختزلت في المطالب السياسية التي تنزع في الغالب إلى منطق التواطؤ والتكيف الإيجابي، بدلًا من التمرد الثوري والقطيعة الجذرية.

ذلك دون شك جانب من جوانب المسألة، لكن تجربة التحديث في المجتمعات الغربية أثبتت لنا أن مسارات التنوير المعتدل هي التي أحدثت التغييرات الهائلة التي عرفتها تلك المجتمعات خلال القرون الثلاثة الماضية، أما التنوير الراديكالي فظل أساسًا قوة دافعة للتغيير والتحول والنقد المتواصل، وهي سمات أخرى لديناميكية التحديث.